العرب البائدة والعرب العاربة ( الباقية) ( لغتها واحدة ولهجاتها مختلفة )

on
  • 2014-11-11 16:36:15
  • 0
  • 24324

أولاً :

لا أظن أن الحديث في مثل هذا الموضوع يكون جديداً ، فقد عالجه وسبر أغواره علماء وباحثون،وقد نقلتُ عنهم،وتابعتُهم في دراستهم ونقدهم وتصويباتهم وبحوثهم ، وذهبت إلى كثيرٍ مما ذهبوا إليه ، وقد عرضتُ ما وجدته من مصادر نقلية وعقلية لديهم .

فقد تعرّضوا  بالنقد والبحث فنقلوا عمَّن سبقهم من القدماء ، وأنكروا بعضها والتي هي عند مؤيديهم من صنوف التمرّد ، وتكذيب ما قد عفا عليه الزمن ، وأصبحت من المسلّمات التي لا يحق لأحد أن يتعرض لها أو يبعثر مكوناتها .

ولعل هذا الأمر يزيد في دقة القضية لديهم ، أنه قد أُسدل الستارُ عليها ،  فالْولوج إليها لا  فائدة فيه تُرجى.

ويبقى عزاء المرء لنفسه أنَّ بعض تلك الروايات التي بنت تلك التصوّرات القديمة أثبتت الأدلة النقلية من الكتاب والسنة ومن النقوش والآثار بطلانها ، والمنهجية العلمية لا تقف وحيدة الجانب عند وجهة نظر ما، كما أنه لا تستطيع حدود مهما كانت صارمة أن تنهي الدليل الملموس ؛  وهذا ما حفز النفس على السير في بحث ما سيأتي بيانه .

لقد استرشدت بمن سبق في بحث ما أوردته أقلام من دوَّن في عصر الدولة الأموية والعباسية – زمن العصبية -  وهنا أجدني  أسعى إلى توثيق التاريخ بالتاريخ  وتصحيح ما التصق بهذا التاريخ  من آراء واجتهادات.

          (1):-  إن ما نجده في كُتب ما بعد التدوين في العصر الإسلامي الأول- وبخاصة فيما يتعلق بنسب العرب الموغل في القِدَم من عرب اليمن أو ما يُعرف بالعرب القحطانيين أو عرب         الشمال أو ما يُعرف بالعرب العدنانيين- يكون أكثر تلك المدوّنات - كما يقول المخالفون لها         من مستشرقين أو من تأثر بمنهجيتهم في دراسة التاريخ العربي القديم - مبنية على أقوالٍ وآراءَ لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة وُضِعتْ على الحدس والتخمين، وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى أن (يعرب) كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي. كما يقول : جواد علي  ويكمل فيقول : ويقولون : ولذلك عُرف هذا اللسان باللسان العربي، وتراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي أنهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خلق يعرب – بالطبع - بزمان طويل. ثم تراهم يقولون:أوّل من تكلمّ بالعربية ونَسِي لسان أبيه كان إسماعيل ، فقد أُلهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً ، وكان أوّل من فُتق لسانه بالعربية المبينّة، وهو ابن أربع عشرة سنة ،وإسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم ([1]).

   (2) :- قد  صنّف معظم علماء الأنساب والإخباريين الشعوب العربية في طبقتين: بائدة وباقية. ويَعنون بالبائدة القبائل العربية القديمة التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية ثم بادت قبل الإسلام، وانقرضت أخبارها بفعل عاملين: الأوّل هو تغيّر المعالم الطبيعية الناتج عن الرمل الزاحف الذي طغى على العمران القديم في أواسط شبه الجزيرة العربية وفي الأحقاف في الجنوب، أمّا الثاني فهو ثورات البراكين وما ترتّب عليها من تدمير المدن. ويُطلق على هذه الطبقة اسم : العاربة . إمّا بمعنى الراسخة في العروبية أو المبتدعة لها بما أنها كانت أوّل أجيالها، وتُسمّى بالبائدة أيضًا بمعنى الهالكة؛ لأنه لم يبق على وجه الأرض أحدٌ من نسلها، وهي تعتبر مادة العرب وأرومتها،وأقدم طبقاتها وأوّل من تكلّم بالعربية([2])، وقبائلها هي:عاد، ثمود، عمليق، طسم،جديس،أميم،وجاسم،وقد يُضاف إليهم أحيانًا :عبيل، جرهم الأولى،ودبار،ويرجعون بنسبهم إلى سام بن نوح ([3]).      

          وأمّا العرب الباقية الذين يُسمون أيضًا بالمتعّربة والمستعربة، فهم بنو يعرب بن قحطان، وبنو معد بن عدنان بن أد، الذين أخذوا اللغة العربية عن العرب البائدة. وقد تعرّب قحطان وجماعته عندما نزلوا اليمن، واختلطوا بالناس هناك، وفي رواية بأن يعرب كان يتكلّم السريانية، فانعدل لسانه إلى العربية، فتعرّب([4]) . 

          وهؤلاء يُعتبرَون العرب الباقين الذين يُشكّلون جمهرة العرب بعد هلاك الطبقة الأولى، وهم الذين كُتب لهم البقاء، وينتمي إليهم كل العرب الصُّرحاء عند ظهور الإسلام، ويرجعون بنسبهم إلى سام بن نوح.

          والواقع أن هذا التقسيم بين العرب العاربة والعرب المستعربة مردّه ما ورد في العهد القديم التوراتي ، وقد نهل منه من عُني بأخبار بدء الخلق، ثم اتفق النسّابون والإخباريون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز. بالمقابل لم يُفرّق القرآن بين العرب في طبقاتهم، ويشير إلى أنهم يتحدّرون من جَدٍ واحد هو إسماعيل بن إبراهيم: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.

          كذلك لم يَرِد في الشعر الجاهلي ما يُشير إلى تقسيم العرب إلى قحطانية وعدنانية سوى أبيات قيلت في التفاخر بقحطان أو بعدنان، ثم إن هذا الشعر لا يرقى إلى عصر الجاهلية الأولى؛ لأن معظمه قيل قبيل الإسلام، كما أن علماء الأجناس لم يلاحظوا فروقًا جثمانية بين القحطانيين والعدنانيين ، ولم يظهر هذا الانقسام في حياة النبي محمد ولا خلال عصر صدر الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين، وإنما برز في العصر الأموي من واقع النزاع الحزبي ، وبعد شيوع نظرية العهد القديم في الأنساب واستناد النسّابين في رواياتهم إلى أهل الكتاب([5]) والراجح أن أصل العداء مرده إلى النزاع الطبيعي بين البداوة والحضارة . ([6]).([7]) .

والتقسيم الخاص الذي نجده للعرب : تقسيم لا يستقيم مع ما نجده في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع المعطيات التاريخية ، وهذا التقسيم الذي يقوم على القول بأن العرب هم ثلاث طبقات : العرب البائدة والعرب المُتعرّبة أو الباقية والعرب المستعربة .

وما نجده من أقوال في أنساب موغلة في القِدم لا تستقيم مع قول الرسول الأعظم خير ولد آدم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حين انتسب فلمّا بلغ عدنان  توقف وقال: كَذَبَ النسَّابون.

فكلُّ من اِدّعى نسباً موغل في القِدم وبخاصة فيما قبل سبأ  وعدنان دون سند ودليل فقد اِفترى وتقّول وادّعى .

قال العزاوي في كتابه (عشائر العراق) :  ثم رأيت في حديث الترمذي وحسنه عن النبي قال : سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم.. وذكر أن صاحب تاريخ الخميس ذكر ما مُحصِّلته أن أبناء نوح عليه السلام ثلاثة سام وهو أبو العرب وفارس والروم ويافث وهو أبو الترك. وحام وهو أبو السوداء والحبشة .. ولم يذكر العاربة والمستعربة.

قال ابن عبد البر في كتابه / الإنباه على قبائل الرواة . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوه الصحاح ما يدل على علمه بالنسب.انتهى

إن العرب هم عرب باقية وعرب بائدة لا غير، فقد زرع اليهود الشقاق بين القحطانية والعدنانية ليقلِّلوا من شرف سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ولتسهل السيطرة عليهم  جميعاً ، فقد أوردوا أنه يوجد في التوراة يقطن وترجموها قحطان وجعلوه من نسل عابر مباشرة ليبعدوا القحطانية عن العدنانية .

يقول صاحب كتاب طبقات الأُمم / القاضي صاعد الأندلسي( ت 462هـ . 1070م)  أمّا الأُمّة السابعة وهي العرب ، فمنهم فرقتان : فرقة بائدة وفرقة باقية ؛ فأمّا الفرقة البائدة فكانت أمما فخمة كعاد وثمود وطسم وجديس و العمالقة وجُرهم ،  ثم يقول : وأمّا الفرقة الباقية فهي مُتفّرقة ومن جذمين : قحطان وعدنان . ([8]) .

إن هذا التقسيم بين العرب الذي نجده هذه الأزمان لا يستقيم مع ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في عهد خليفتيه الصِّدّيق والفاروق رضي الله عنهم وأرضاهم .إنّما نجد أول ظهوره كان في عهد الدولتين الأموية والعباسية حين دخلت الأمم غير العربية في الإسلام إمّا رغبة أو رهبة ، وأدخلت معها نظرياتها الشعوبية لضرب الإسلام من داخله وذلك بطرق كثيرة منها زرع العداوة بين مادة الإسلام وقاعدته ومدده وامتداده وهم العرب .

(3) :-  هذا الفصل بل وجميع ما في هذا الكتاب  حديثي فيه عن اليمانية أو القحطانية ، لأن الدراسة تختص بقبائل من هذا الشعب العربي صاحب العمق التاريخي في شِعَب الزمان المتطاول .

إن المعرفة التاريخية لهؤلاء العرب الجنوبيين قليلة فهو لا يتجاوز إشارات وردت عنهم في العهد القديم – للتوراة – وفي بعض الآثار المصرية والبابلية والآشورية وفي كتابات المؤرِّخين والجغرافيين من اليونانيين والرومانيين ، ثم ما كتبه العرب عنهم بعد الإسلام ، وتختلط بالأساطير ، وظل تاريخهم غير واضح إلى أواسط القرن الماضي .

فقد جدّ علماء الغرب – المستشرقين – في قراءة نقوشهم المنثورة على الأبراج والهياكل والنُصُب والأحجار ، وهي مكتوبة بخط يسمى الخط المُسند ، وهو خط سامي قديم ، وقد عرف هؤلاء العلماء اللغة التي كُتبت به ولهجاتها ، وهي لغة سامية قريبة من الحبشة والعربية الشمالية ، انبثقت فيها لهجتان أساسيتان هما المعينية والسبئية . ([9])  .

نحن لا نتحدث عن تاريخ قبائل العرب البائدة في بلاد اليمن فقد أسهب القرآن في ذكرهم وكيف كانت عظمة حضارتهم ، إنما حديثنا عن العرب الباقية .

يقدم ( ول ديورانت ) مؤلفه كتاب/ قصة الحضارة  بكلمة جاء فيها :  التاريخ بعضه ظن ، وبعضه من صنع الهوى ، وأصدقه ما كُتب على الحجر.([10]) ، فالتاريخ قد يكون منه ما هو مدعاة للشك ، وعرضة للتندر!  فيكون من صنع الهوى أو من نسج الخيال!

وقد أفسده ما كتبه أو يكتبه بعض المؤرخين ، إرضاء للمتنفِّذين أو تزلّفاً للمترفين .

وأصحه ما نُقش على الحجر ، وأخلده وأصدقه ذلك التاريخ الذي ذكره القرآن الكريم كلام ربُ العالمين .

(4) :- الهجرات السامية لخارج الجزيرة أمر قديم . وهذه الهجرات منذ بدء الجفاف بعد انتهاء العصر المطير ، وحتى الألف الأولى قبل الميلاد لا يطلق عليها هجرات عربية إنّما  تسمى هجرات المجموعات البشرية ذات الثقافة السامية من سكان شبه الجزيرة العربية ، لأن لفظة عرب لم تنتشر إلاّ في منتصف الألف الأولى قبل الميلاد  ([11]).

          ويرى بعض الباحثين أن العرب والساميين بشكل عام من الشعوب التي خرجت من شرق شبه الجزيرة العربية وتحديدًا من منطقة حوض الترسيب العربي الكبير قبل أن يصبح خليجًا. بينما تقول دراسات حديثة أخرى أن الساميين نشؤوا في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط حوالي 4000 ق.م. ومن ثم نزحوا إلى الجزيرة العربية وإثيوبيا لاحقًا .

          ويذكر ابن خلدون قوم ثمود وعاد في كتابة / تاريخ ابن خلدون. ما يوحي له بذلك وهو يتكلم عن العرب القدماء فيقول:‏إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمّين ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور. ويقول كذلك: فعاد وثمود والعماليق وأُميم وجاسم وعبيل وجديس وطسم هم العرب. ([12]) .

 (5) :- المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون تتبعوا تاريخ كلمة "عرب " وتتبعوا معناها في اللغات السامية ، وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم ، فوجدوا أن أقدم نصّ وردت فيه لفظة (عرب) هو نص آشوري من أيام الملك شلمنصر الثالث أو الثاني (ملك آشور). وقد تبين لهم أن لفظة (عرب) لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى ، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة (مشيخة) كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية وكان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية([13]). ووردت في الكتابات البابلية كلمة (ماتوعرابي)، ومعناها: أرض العرب، وكانت تحفل بالأعراب ، وظهرت للمرة الأولى في عام 530 ق.م لفظة (عرباية) في نص فارسي مكتوب باللغة الأخمينية، في نقش بهستون للشاه دارا الأول الكبير، وقصد الفرس بها البادية الفاصلة بين العراق والشام بما فيها شبه جزيرة سيناء . ([14]) واقتبس العبرانيون كلمة (عرب) من الآشوريين والبابليين واستعملوها بالمعنى نفسه ؛ أي: القفر والجفاف،([15]) ، ووردت لفظة (عربية) و(عربة) وبلاد العرب في العهد القديم بمعنى البداوة والقفر، ولا تعمر إلى جيل فجيل ولا يضرب أعرابي فيها خيمة ([16]).([17]) .

 

وإن كان هناك نصوص جنوبية ظهر فيها عرب الجنوب،ومن الأرجح أن يكون ذلك من القرن السابع عشر/السادس عشر قبل الميلاد( RES3945) .([18]) . وهناك رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمسة أنبياء من العرب : محمد وإسماعيل  و شعيب وصالح وهود . وهناك من يقول : إن ولد إسماعيل  نشؤوا في عربة وهي تهامة . ويقول الزهري في لسان العرب عن العرب معدّيهم ويمانيهم :  الأقرب عندي أنهم سموا عرباً باسم بلدهم العربات .

لذلك أصبح من المتعذر على أي باحث في هذا الصدد أن يجزم بتعيين وقت استعمال العرب أنفسهم لهذه الكلمة بمدلولها اللغوي .([19]) .

          والمقصود  بالعرب سكّان المنطقة الواسعة الذين أعطوها اسمهم فصارت تُعرف ببلاد العرب، واختلف علماء اللغة في مدلول هذه الكلمة الاصطلاحي من حيث اللفظ ومصدر الاشتقاق، وعلى الرغم من كثرة التفسيرات اللغوية، فإن أبرزها ما يلي:

  • التزم الكُتّاب العرب الأوائل عند دراستهم تفسير كلمة (عرب)، بمنهجهم التقليدي في علم الأنساب، فالعربية منسوبة إلى يعرب بن قحطان، مشتقّة من اسمه، فهو أوّل من أعرب في لسانه، وتكلّم بهذا اللسان العربي، وتعلّمها إخوته وبنو عمومته منه، وكانوا قد تركوا بابل ليقيموا بجواره في اليمن، وهؤلاء هم القحطانيون. ويذكر العدنانيون أن أوّل من تكلّم بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن هو النبي إسماعيل بن إبراهيم، وكان عمره آنذاك أربع عشرة سنة، وهو جدّ العرب المستعربة.
  • إن كلمة (عرب) مشتقة من الفعل ( يُعرب ) أي: يُفصح في الحديث، وأصبحت تدل على العرب كجنس لفصاحتهم في اللسان، فيُقال: رجلٌ معرّب إذا كان فصيحًا، ورجلٌ عربيٌ اللسان إذا كان فصيحًا.
  • وسُمّي العرب عرباً نسبةً إلى موطنهم ( العربات ) ، وعربة هي مكة وباحة العرب ، ودار أبي الفصاحة : إسماعيل عليه السلام . وقال بعض المؤرخين : وأقامت قريش بعربة فتنخّت بها ، وانتشر سائر العرب بجزيرتها ،فنُسِبوا كلهم إلى عربة ؛لأن أباهم إسماعيل بن إبراهيم نشأ وربَّى أولاده فيها فكثروا ، فلما لم تحتملهم البلاد انتشروا  وأقامت قريش ([20]) .
  •      إن كلمة (عرب) مُشتقة من أصل سامي قديم بمعنى "الغرب"،" فقد أطلق سكّان بلاد ما بين النهرين اسم (عريبي) على الأقوام الذين كانوا يقيمون في البادية الواقعة إلى الغرب من بلادهم ([21])وهي بادية العراق والمسّماة بهذا الاسم.([22]) .
  • يرى بعض الباحثين المحدثين أن كلمة (عرب) مشتقة من الكلمات العبرية التالية ذات الصلة بالبداوة والبادية([23]) ( أرابا )، وتعني الأرض الداكنة، أي المغطاة بالكلأ، ويُشير هذا المعنى إلى حالة اجتماعية قائمة على التنقل والترحال وراء موارد العشب([24])، (إرب) ومعناها الحُريّة وعدم الخضوع لنظام ما ، وهذه من صفات البدو ، (عابار) بمعنى : التنقل من مكان إلى آخر، وقد ارتبط هذا المعنى بالبداوة من واقع أن العرب أنفسهم استعملوا هذه اللفظة ليميزوا البدو من سكان المدن والقرى الناطقين بالعربية ، (عرابة) بمعنى : الجفاف والصحراء، ومنها تسمية وادي العربة الممتد من البحر الميت إلى خليج العقبة . ([25]) . ([26]) .

 (6) :-            وكذلك من الأمور التي يجب أخذ عين الاعتبار بها أن جميع الباحثين والتاريخيين لم يقولوا أن هناك لغة عربية استحدثها وأنشأها اليمانية ، ولا أن هذه اللغة أول من قال بها ( إسماعيل  ) عليه السلام .

وقد كان اليهود يظنّون أن اللغة العبرانية هي أقدم اللغات حتى الأزمنة المتأخرة حين البحث لآثار بلاد الجزيرة العربية والتي أُثبت من خلالها أن جميع القبائل السامية : الكلدانيين و الآشوريين ، والآراميين ، والفينيقيين ، والهكسوس . انتقلت من الجزيرة العربية وبقيت البقية التي كانت تُعرف بالعرب : عرب الشمال – العدنانيين - وعرب الجنوب اليمانيين  – القحطانيين . كما في نص أشوري في عهد الملك الأشوري( شلمنصر الثالث أو الثاني ) ، وفي نصوص بابلية وفي نصوص فارسية ومصرية ([27]) كلها قبائل عربية  قبل مولد اللغة العبرانية.

فـلم يصلنا من العرب قبل الإسلام عن طريق الأخبار والشعر الجاهلي وسائر المصادر الأخرى مجتمعة ما يعادل في كميته وقيمته ووثوق مصدره ما تحويه هذه النقوش ؛ لذلك لا يجوز أن يتصّور أحد أنه قادر على الاستغناء عن معرفة مادة النقوش هذه  إذا شاء أن يعرف تاريخ جزيرة العرب وأهلها قبل الإسلام ([28]) كما يقول الأستاذ محمود الغول ، وكان من المتخصصين العرب في الحضارة اليمنية القديمة .

وحين بحث علماء الآثار وجدوا أن هناك قرابة قوية بين أبجديات النقوش العربية الجنوبية وبين الأبجدية للنقوش الفينيقية،وأن هناك أبجدية واحدة هي المنشئة لتلك اللغات،أوأن واحدة خرجت من رحم الأخرى([29]).

   والمسند والثمودي واللحياني والصفوي :يتبين من انتشارها في منطقة واحدة خاصة في الأرضيين التي تسكنها قبائل عربية خالصة بعيدة عن مؤثرات ( بني إرم ) ومن تقاربها من المسند،أنها تفرعت من أبجدية واحدة ، وكانت الأبجدية الرائجة في بلاد العرب قبل الميلاد وبعده .([30]).

ومع وجود كثير من العلاقات اللغوية المكتشفة في النقوش التي نجدها متقاربة بين شعوب : الكنعانيين والبابليين والآشوريين والإرميين ، والهكسوس ، والتدمريين ، والنبط ، والمعينيين ، والسبئيين ، والثموديين واللحيانيين والعماليق . كل هذه الشعوب في أقلامهم ونقوشهم نجدها تنفطر وتنبعث من لغة واحدة وهي اللغة العربية ، لغة أهل الجزيرة . ([31]) .

(7) :-  كثير من المستشرقين يصرّ على أن لغة النقوش المعينية القديمة هي القنطرة إلى البابلية والمصرية القديمة ، وهي قريبة جداً إلى العربية القديمة عربية الشعر الجاهلي ، إلاّ أنها اقرب ميلاً إلى الحبشية ، فالقرابة  قوية جداً بين النقوش العربية الجنوبية وبين الأبجدية الفينيقية لكن الخلاف في درجة القرابة ونوعها كما يقول صاحب كتاب التاريخ العربي القديم .([32])

لذلك ففيه نفي لقول من قال أن المعينيين كانوا من ساكني شمال الجزيرة العربية قبل انتقالهم للجنوب منها وذلك لعلاقة اللغة بينها وبين لغة الحبشة .

ويذهب آخرون إلى أن الساميين جميعاً طبقات متتابعة من العرب وأن اختلفت أسماؤهم ومنها المعينية والسبئية ، وأنَّ بلادهم الأولى شمال جزيرة العرب قبل أن ينتقلوا إلى جنوب الجزيرة ، والذي يرجح هذا القول  حسب ظنونهم : أن أقدم ذكر للمعينيين والسبئيين في بلاد اليمن حسب ما تم كشفه من آثار يرجع إلى بداية القرن الثامن قبل الميلاد ، وقد رجّح بعض التاريخيين أن المعينيين هم ( قوم عاد) وأنهم  أحفاد عاد الثانية (هود  عليه السلام ومن آمن معه ) وبلاد عاد الأولى هي بلاد الأحقاف في اليمن. وقد أنكر آخرون هذا القول وذهبوا للقول : أن المعينيين من العماليق ، وأن بلادهم هي شمال الجزيرة ، وقد انتقلوا  للجنوب في نهاية عهدهم قبل أن ترثهم دولة سبأ في الشمال وفي الجنوب كما يقول علماء الآثار والتاريخ ([33]) ، ويزيدون في التأكيد على أن مملكة سبأ كانت قبل انتقالها للجنوب كانت في الشمال ، وذلك أن بلقيس- كما يقولون- ملكة سبأ التي آمنت بدعوة سليمان عليه السلام الذي يرجع تاريخ تواجده إلى الألف الأخيرة قبل الميلاد ([34]).

لقد ذهب غير واحد من علماء التاريخ والآثار أن ملكة سبأ التي آمنت بدعوة سليمان عليه السلام والذي كان زمنه في القرن العاشر قبل الميلاد  (973و 933 ق.م ) ، وكانت تحكم بعض بلاد الشمال للجزيرة والتي هي الطريق التجاري الذي خطه المعينيون والسبئيون وفي نقوش سبئية  وجدت في بلاد اليمن اكتشف خبرها( ويندل فيليس ) رئيس بعثة التنقيب الأمريكية عام (1951م ) في كتابه ( كنوز مدينة بلقيس ) والتي ترجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد ،ومعنى هذا أن سبأ كانت مسيطرة على بلاد اليمن وكذلك لها حكم على بعض مقاطعات الشمال للجزيرة .

ومما يؤكد أن سبأ كانت محاذيه وقريبة من بلاد الآشوريين بعض النقوش الآشورية والتي تعود إلى القرن الثامن ق.م ؛ فهناك نقش يعود إلى عهد  سرجون الثاني ( 722- 705ق.م ) إذ ذكر في جملة القبائل التي أخضعها أو الملوك الذين ضرب عليهم الجزية .... يثعمر السبئي ... وهذا نص النقش : وضعت الجزية على .... يثعمر السبئي ، أو يثعمر السبئيين ، وأُخذت حاصلات الذهب من جبالهم والخيول والجمال . ([35]) .

وهناك كما ذكرنا الكثير من النقوش الآشورية والبابلية التي ذكرت أن للسبئيين تواجد وسلطة ؛ فهناك نص في عهد الملك الأشوري بليصر الثالث (744- 727ق.م ) ذكر فيه انتصاره على ( شمسي ) ملكة العرب وهي من ملكات سبأ . وله كذلك نص آخر ذكر فيه أهل مساء وتيماء، والسبئيين ،وأهل عيفاء وأهل بدنا،وأهل خطي ومناطق قبيلة (أدب إل)([36])  

وهناك نص لحاكم بلاد سوخوا وبلاد ماري اسمه ( ننور تاكودوري أصر ) وهذا النص نص أشوري ذكر فيه:أن أهل تيماء وأهل سبأ الذين مواطنهم بعيدة.وهذا النص يعود تاريخه إلى منتصف القرن الثامن ق.م.([37]).

وقد أشار إلى هذا الرأي الدكتور : بافقيه فيقول : السبئيون في نظر الكثير من العلماء جاءوا إلى اليمن من الشمال،كما يقول من علماء الآثار: (فرتزهومل) و( و.ب البرايت) . ويعلّق بافقيه على هذا فيقول : لكننا لا نستطيع أن نقطع برأي في هذه القضية الشائكة التي يكتنفها الظلال من كل جانب ، فلا نقول بهجرة بناة الحضارة اليمنية من الشمال كما لا نقول بهجرة كل الساميين من الجنوب ([38]).

ويعارض هذه الآراء أو بعضها بعض الباحثين والمؤرخين فيقولوا: كان للمعينيين مستعمرة في ناحية ( العلا ) شمالي الحجاز كُشفت فيها نقوش معينية كثيرة ، وكانت تسمّى معين مصران ، وكان سكانها من عرب الجنوب ، وقد نقلوا إليها عباداتهم وهياكلهم المقدسة ، وما زالوا ناشطين في التجارة، ثم يقول: في مستهل القرن الثاني الميلادي حملها اللحيانيون الذين كانوا ينزلون في دادان (العلا الحالية ) .

واللحيانيون عرب شماليون ، كتبوا نقوشهم بالخط المعيني المسند مما يدل على أثر الجنوبيين فيهم ، ولعلهم كانوا يختلطون بقوم منهم ، وقد كتب الثموديون الذين كانوا يقيمون هم أيضاً في شمالي الحجاز وكانوا عرباً مثلهم  بهذا الخط الجنوبي الذي انتشر إلى منازل العرب في الصفا بحوران جنوبي دمشق  مما يؤكد علاقة وثيقة بين هذه الأجزاء وعرب الجنوب حين كانوا يسيطرون على طريق القوافل التجارية من القرن الثامن إلى القرن الثالث ق. م . ([39])

وهناك من يذهب للقول بأن المعينيين كانت دولتهم في الشمال للجزيرة  حين ذُكر لها نقوش في بلاد (العلاء) وهي أحد مستعمراتهم التجارية هناك ، وهو الظاهر والأقرب للحقيقة ، وهناك من يذهب للقول أنهم من بقايا العرب البائدة ( عاد) .ولكن هناك  من المستشرقين من يرى أن دولة سبأ أقدم من دولة معين من أمثال(و.هـ.مللر)و(مارتين هارنمان)و(ك. كلاركر) وهذا الأخير يرى أن القتبانيين والمعينيين ظهروا بعد سبأ مباشرة.([40])

وكثير من الأثريين يؤكدون أن منتصف الألف الثانية قبل الميلاد هو البداية لتاريخ اليمن الحقيقي.([41]) .     

  (8) :-  يرى عدد من ثقاة المؤرخين والباحثين الأوروبيين أن العرب والساميين شيء واحد قال (سبرنغر): أن جميع الساميين عرب، وذهب (ساباتينو موسكاتي) عالم الساميّات المعروف في كتابه الصادر عام 1957 والمسمّى ( الحضارات السامية ) إلى القول ثمة حقيقة تبدو ثابتة إلى حدٍ كافٍ ، وهي أن التاريخ يدلنا على أن الصحراء العربية كانت نقطة الانطلاق للهجرات السامية .. وأن اللغات السامية الثلاث ( الكنعانية والآرامية والعربية ) كانت  لغات قائمة جنباً إلى جنب ، سواء في الشام أو في غرب الجزيرة العربية أو الجنوب .

ولا أحد ينكر أن هناك فروقات بين تلك اللغات ، وأن تلك اللغات هي لغات سامية ، ومع تغير الأزمان والبيئات تغيّرت وتطورت ([42])حتى كانت اللغة التي نزل بها القرآن الكريم على قلب خير البشر وسيد ولد آدم / محمد بن عبد الله القرشي العدناني صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

ولقد أثْر اليهود القدامى في إقناع العالم أن اللغة العبرية هي أم اللغات السامية ، وتبعاً لذلك اقتنع العرب بهذا القول وساروا على أثره .

ولقد كان من أثر هذا القول ما ذكره  محمد بن سلام الجمحي : إن لغة العرب الذين نزل فيهم القرآن هي لغة إسماعيل، وأن لغة إسماعيل  هي لغة غير لغة العرب العاربة ، لأن لغة العرب البائدة قد بادت معهم ([43])  .

وقد سار على هذا النهج وهذا التقسيم كثير من الباحثين في اللغة العربية فيعتقدون  أن شعوب (عاد) و( ثمود ) و( طسم ) و( جديس ) و( جرهم الأولى) و( العماليق ) قد بادت ولم تترك خلفاً يرثها ولا تراثاً ثقافياً يشير إلى وجودها .([44]) .

 يقول صاحب كتاب/ فقه اللغة :وعلى ضوء ما وصل إلينا من آثارها – اللغة العربية – يمكن تقسيمها إلى قسمين :

 العربية البائدة . والعربية الباقية .

فالبائدة تطلق على لهجات شمال الحجاز من حدود ( الإرميين ) وفي داخل هذه الحدود،  والباقية نشأت ببلاد نجد والحجاز وتشعبت منها اللهجات التي نتكلم بها في العصر الحاضر في البلاد العربية ، وقد وصلت إلينا العربية الباقية عن طريق آثار العصر الجاهلي والقرآن والحديث ، وآثار العصور الإسلامية المختلفة ، وأقدم ما وصل إلينا من آثار العربية البائدة لا يكاد يتجاوز القرن الأول للميلاد ، وأقدم ما وصل إلينا من آثار العربية الباقية لا يكاد يتجاوز القرن الخامس بعد الميلاد . ([45])

إن هذا القول فيه قضاء على تاريخ لغة شعوب مازالت تتوارث ، وفيه إبادة للغة أهل الجزيرة في حقب التاريخ المتطاول ، وإن بناء فكر وأسلوب الحديث ولغة البشر في عصر الرسالة أو في عصر الجاهلية القريبة من مبعث الإسلام هي نفسها لغة (عاد وثمود وجرهم الأولى وسبأ ومعين وغيرها ) بناءً غير صحيح وغير منطقي ؛ فالقرون المتطاولة بين عصر الرسالة وبين تلك الأقوام المعتقة في القدم لا بد أن تحدث فيها اختلافات وفروق في نُطق الكلمات ومعانيها ، ومثال ذلك ما نجده في زماننا من ظهور لهجات مختلفة في البلاد العربية تسمّى باللهجات العامية .

تُحدثنا النقوش المكتشفة في ممالك الجزيرة أن لكل منهم لغتهم أو لنقل لهجتهم الدارجة  التي يتحدثون بها وهي تختلف عن لغة المتأخرين منهم . إن تلك اللغة هي عربية  كما في لغة حمير اليمانية لكن بسبب عوامل الامتزاج بين شعبي جنوب الجزيرة العربية وشمالها ، تلك العوامل التي ساعدت على طغيان اللغة العربية عليها – أي لغة المسند – وجعلت منها في نظر أدباء الحجاز ونجد مجرد رطانة  الأمر الذي دفع عمرو بن العلاء إلى أن يقول كلمته المشهورة ( ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا)، ولكن هذا القول لا يعني نفي عربية لغة (المسند)([46]).

     ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير ، أنها كانت في العربية الجنوبية ، وأنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام . بينما نجد قبائل ( كهلان ) وبطونها ، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن . وهي قبائل ضخمة (أضخم من قبائل حمير) ، فقد كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام.

أما بطون حمير فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حدّ تعبير الأخباريين ، ويظهر أن هذا التباين كان عاملاً مهماً في تمييز (حمير ) عن غيرها ،وفي حشر البطون في جذم ( حمير ) . فمن حافظ على لهجته القديمة ، وبقي يستعملها عُدّ في هذا الجذم . ولم يحافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم ، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم .([47]).

ولم يخطر ببال هؤلاء أن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم . وأن من سيأتي بعدهم سيكشف سر (المسند) ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته ، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي نُدوّن بها ، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية التي نزل بها القرآن الكريم ، وعلى ما تفرع من لهجات ([48]) .

إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير هي لغة واحدة قد تبدّلت بتبدل مساكن أهلها، فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي، إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة الأندلسي ومن الخرساني إذا رام نغمتهما . ثم يقول: فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافهما إنما  هو من نحو ما ذكرنا، من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصول([49]). وابن خلدون الحضرمي يقول: لغة حمير هي لغة أخرى مُغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها  .

لقد ذهب ابن حزم إلى قول ابن سلاّم الجمحي ، من إخراج حمير من اللغة العربية  ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صريح أن : من ولد سبأ حمير . فهل يعني أن باقي سبأ ليسوا من أهل العربية ؟! لقد أوردت النقوش والآثار : أن من أبناء سبأ من كان يقطن في شمال الجزيرة العربية قبل هجرتهم للجنوب جميعهم ، وهناك أحاديث تؤكد أن أبناء سبأ من ولد إسماعيل  عليه السلام .

وقول أبو عبد الله بن سلاّم الجمحي في كتاب / طبقات الشعراء. عن أبي عمرو بن العلاء : ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم عربيتنا ([50]). و الذي نريد  أن نلاحظه هو أن ابن سلاّم ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي : وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال : ( العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم ). - راجع ص8 من كتاب (طبقات الشعراء) طبعة مطبعة السعادة - فواجب على من استشهد بكلام ابن سلاّم و اعتمد  على صحة العبارة الأولى وهي : "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم عربيتنا"  أن يسلّم أيضاً بصحة العبارة الثانية وهي : " العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم " لأن الراوي واحد والمروي عنه واحد .

          و كلا الجملتين السابقتين ينفي بعضها حديث ( سبأ ) الذي رواه ( فروة بن مسيك المرادي- رضي الله عنه - فإن حمير من سبأ وجّل قبائل اليمن من سبأ ، لذلك فهذا القول لعمرو بن علاء وبن سلاّم الجمحي مردود بالمعنى الذي ينفي عربية حمير السبئية . لا أحد ينكر أن هناك وحسب بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وما تم اكتشافه مؤخراً من آثار والتي تقول أن هناك قبائل دخلت  بالحلف مع حمير مثل : الأوزاع والسلف وحضرموت وخولان  . 

ونجد ابن خلدون قوله أوضح في أن لغة حمير هي لغة مغايرة للغة مضر ، وذلك في كثير من أوضاعها وتصريفها وحركات إعرابها . وقول ابن خلدون صحيح واقعي ؛ فاللغة تختلف في بعض قواعدها ، لكنه لم يذهب لقول ابن سلاّم وبن حزم من نفي العربية عن حمير ، وابن خلدون وافق عمرو بن علاء في قوله أن الاختلاف في معايير اللغة وليست في اللغة نفسها أنها عربية أو غير عربية .

وقد ذهب بعض المعاصرين حين كتشاف كتابات المسند في المواقع الأثرية الجنوبية للقول أن : المسند كان مُسندين أحدهما المتداول بين الناس عامة ، والآخر كان يخص الملوك ودواوينهم وهو ( الخط الرسمي )الذي تُكتب به الوثائق والمراسيم والمُكاتبات الرسمية . وهؤلاء الكُتَّاب يُصرّون على هذا القول ([51]). ومع هذا القول نتوقف دون أن نغوص في أعماق معانيه ، إنما قولنا أننا لم نجد الدليل على صحته فلا نتبناه وكذلك لا ننكره .

يقول الأستاذ عبد العزيز القارئ/ المدرس بمعهد الجامعة الإسلامية / دِرَاسات في أُصوُل اللُّغة العَرَبيَّة في توضيح هذه الإشكالية :مرّت اللغة العربية بأدوار ومراحل، وارتقت في مختلف الفترات درجات التصاعد والتطور حتى وصلت إلى درجة ومرحلة نهائية وضعتها في القمة بحيث أصبحت أهلاً لأن ينزل بها آخر كتب الله المنزلة ولأن تكون وعاءً لكلام الله عز وجل.

مرحلة النشأة: حيث اللغة الأم ( السامية ) وحيث كانت العربية في مرحلة مخاض كما سبق تفصيله.

 لغة العرب البائدة: وقد سبق في أول البحث أنهم: عاد، وثمود، وطُسَم، وجَدِيْس، وأمَيْم، وعَبِيْل، والعمالقة، وجُرْهُم.. وذكرنا أن مساكن عاد كانت بجنوب الجزيرة في طرف من صحراء الربع الخالي وثمود بمالها الغربي، وطسم وجديس بشرقها، والعمالقة وجرهم بالحجاز، وبمكة ويثرب..

هؤلاء هم الذين كانوا يتكلمون العربية التي استقلت عن السامية الأم وتطورّت إلى أن اتخذت لنفسها شكلاً مستقلاً ، ونستطيع أن تعتبر عربيتهم فترة متطوّرة من العربية الأولى التي وجدت في فترة النشأة..

  لغة القبائل القحطانية([52]) : ويسميها الباحثون ( الحميرية ) وهذه القبائل كانت تسكن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية - حضرموت واليمن - حيث جاوروا أقرب الأمم إليهم وهم : الأحباش وكثر اختلاطهم بهم فتأثرت لغتهم باللغة الحبشية مما جعل بعض المستشرقين يعتبر الحميرية والحبشية لغتين شقي� href="#_ftn53" name="_ftnref53" title="">[53]).

لغة القبائل العدنانية: وهي لغة القبائل التي تنتسب إلى عدنان بن إسماعيل  عليه السلام، وكانت تسكن القسم الشمالي من الجزيرة العربية الذي يشمل: هجر، ونجد، والحجاز..

وقد سبقت الإشارة إلى أن إسماعيل  عليه السلام نشأ في كَنَف إحدى القبائل البائدة (جرهم ) أو هي فرع من فروعها، ويشير الحديث الصحيح في صحيح البخاري / كتاب الأنبياء إلى أنه - عليه السلام - أعجبهم وأنفسهم أي أنه كما يبدو فاقهم فصاح