في ظلال الهجرة النبوية
on
- 2016-02-25 12:38:40
- 0
- 1148
شباب الأمة الإسلامية، وعدتها لكل داهية وظلمة، قد تذهلك التحديات والأزمات، وتكبر في عينيك المآسي والنكبات، وتؤزك المكائد والمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام وأهله... ولكن لا تحزن، فما زالت للصراع جولة، ولأحداث الهجرة النبوية وأحاديثها على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حضور بيننا وشهود، يتحفنا بما يهدي الطريق وبنير السبيل...
" لا تحزن إن الله معنا" آية قرآنية، وكلمة ربانية أنزلها الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، نزل بها أمين وحي السماء جبريل عليه السلام، إلى أمين أهل الأرض، محمد صلى الله عليه وسلم، فبلغها ذلك أمته بسياقها السيري الكامل، ودلالاتها التاريخية المعبرة، ومضمونها الإيماني الخالد، عندما كانت هداية البشرية ممثلة في شخصه صلى الله عليه وسلم وشخصيته، وهو يحمل إلى الناس آخر كلمات السماء إلى الأرض، وختام الكتب المنزلة من عند الله، على يد خاتم النبيين...
كان ذلك ومحمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو في طريقة إلى المدينة المنورة، بعد أن ضاق أكابر الشرك وكبراء مكة ذرعا بالدعوة الجديدة وقيمها ومثلها التي تقلب الجهل والجهالة على رؤوس أصحابها، لتحل محلها مثل الهداية والإيمان والنور والمساواة، بشعارات من قبيل: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" .
رافعة من أقدار رجال رفعوها بإيمانهم وقناعاتهم وتضحياتهم، من أمثال "سلمان الفارسي، وصهيب الرومي وبلال الحبشي وأبي بكر الصديق التيمي وعمار بن ياسر المولى...واضعة بذلك آخرين اعترضوها وجحدوا وكذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن" وهم عصابة من أمثال أبي جهل عمر بن هشام، وأمية بن خلف، والأسود بن عبد المطلب...بينما النبي الهادي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقة إلى دار الهجرة، يتخفى عن قريش في غار ثور هو وصاحبه وصديقه الصديق رضي الله عنه، إذ بخيل المشركين ورجلها تمشط المكان، وتجوب تلك الأرجاء باحثة عن أثر لهما أو خبر، إذ أحس بهم أبو بكر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم" لو رفع أحدهم رجله لرآنا تحته" كناية عن اقترابهم من الغار، وإشفاقا منه على الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعوة من ورائه، فأرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ إيمانيا خالدا وتوكلا على الله وثقة بوعده.. "ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر" {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] وما بعد بيان الله بيان، فالعزة بأبلغ مضمونها وأدق تفاصيلها وأوسع مدلولها لله والقهر له والغلبة والحكمة البالغة التي تجري الأمور بموجبها وفق إرادة الله ومشيئته لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه...
ووصلت قافلة الدعوة ونور الهداية بسلام، وأشرقت شمس الإسلام على ربوع المدينة {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] وبلغ الدين ما بلغ الليل والنهار، واستظل بفنائه من شاء الله، .. وامتدت تلك الدعوة المباركة والحضارة الإسلامية السامية قرونا من الزمن أنتجت خلالها ما لم تنتجه أمة من الأمم في ظرف زمني قصير، فترجمت كتب الإغريق والفرس والرومان.. إلى العربية واختير منها الجزيل النافع من العلوم، واستخدم وطور وبني عليه وتوسع فيه، ورد ما سوى ذلك وضرب به عرض الحائط، وإن كانت تلك العملية لم تحدث بالصورة المثلى حيث تسربت من خلال ذلك أفكار منحرفة واتجاهات طفيلية في علم الكلام والقول بخلق القرآن... ولكن تم التغلب عليها واجتثاثها من منابتها
وسارت قافلة الحضارة الإسلامية بسلام، متعالية على أمواج البحر وزبد العداء للإسلام وأهله، إلى أن وضع المسلمون حبل السفينة على الشاطئ، ليستريحوا برهة من الزمن، أو يخلدوا قليلا إلى ما حققوا ويقطفوا ثمار ما زرعوا عاجلا، واستمر الحال على ذلك إلى أن كثر الاشتغال باللهو والمجون والغناء والجواري والقصور... فتخلت عنهم العناية الإلهية والمدد الرباني، لأن الملك الذي كان بين أيديهم لم يكن متاعا يورث ، وخصائص النصر والتمكين لم تكن من تلك الجينات التي تظهر في الابن المنحدر من السلالة الفلانية ... وإنما هي عناية إلهية وتمكين من الله يأتي بمعادلة واضحة، يفقهها ويقدم عليها من أراد أن يوفي بالبيعة مع الله التي يستحق بها البائع رضا الله والدار الآخرة في الأساس، والعز والتمكين في الدنيا، بموجب اتفاقية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] .
وتمتد جوانب الصورة والمشهد الإسلامي القديم، ويتسع أفقه ليغطي حاضر المسلمين اليوم، وتصب مياه غزيرة في مختلف روافده المتشعبة، مما يستعصي على التناول في مثل هذه العجالة، إلا أننا لن نسدل الستار على بقية القصة قبل أن نقف مع محطات بارزة من خلال المشهد تحليلا وتعليقا:
أولا: المشهد الأول: والذي يتراءى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي وهو يقطع مسافة ستمائة كيلو متر على الإبل، من مكة إلى المدينة بينما هو في تستر عن القوم وأخذ بالحيطة في إعمال الأسباب، وهو الرسول المؤيد بوحي السماء والموعود بالنصر، والله قادر على أن يجعل ذلك النصر بجيش من الملائكة ، أو جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام، دون أن يتكلف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم مشقة الكفاح وجهد الجهاد، ولكن الله شاء ولا راد لقضائه أن يجعل الرسول قدوة للمسلمين في مختلف نواحي حياة الناس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى لا يقول متقول تلك معجزة، وليس لدينا نبي حتى نحققها، فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيما تبلغ جهودنا ويتلاءم مع خصائصنا وإمكاناتنا المعتادة..
ثانيا: المشهد الثاني والذي يظهر فيه تكتمه صلى الله عليه وسلم وهو يخرج في جنح الليل من البوابة الخلفية لدار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويأمر عبد الله بن أبي بكر أن يأتي إليهم ليلا بغنمه في الغار لشربوا من لبانها ويقص عليهم ما دار في قصة ملاحقة قريش، ويعفي أثره بآثار الغنم.. وكلها دروس وعبر في الحذر وأخذ الحيطة والتكتم على الأمور التي قد تلحق اضرارا بالدعاة والدعوة، ولها صورة أخرى وردت في القرآن الكريم مع أصحاب الكهف، في وصيتهم لصاحبهم الذي خرج ليحضر لهم من أطعمة تلك القرية التي عهدوها ظالمة، قبل نومتهم في الكهف قائلين له: " {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] وصرحوا بالهدف من ذلك التكتم قائلين: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]، فالخياران الناجمان عن اكتشاف أمر الفتية الدعاة أصحاب الكهف من طرف أهل القرية أنهم سينكلون بهم ويقتلوهم، أو يردونهم عن الحق بالقهر والقوة والخسائر باهظة لكونها تصل مقاتل الدعوة فتقضي عليها بالقضاء على أهلها وتصفيتهم جسديا "يرجموكم" أو يقضي على حركتها وامتدادها الأفقي، فيكون ذلك قضاء عليها معنويا بإتلاف أهلها وإجبارهم على التخلي عنها..فأين هذه الصورة المحاذرة الواعية من صور من يرفعون شعار الجهاد ويضربون في نحور الصديق قبل العدو وربما في نحور العدو ضربة ليست بالقاضية فيستثيرون عليه الأعداء والأصدقاء معرضين نحورهم للصواريخ والدبابات ..وكأنهم أحرزوا غاية الجهد وحققوا شرائط الجهاد وأركانه، وأين فقه الجهاد وشروطه وآلياته الفقهية المنصوصة...
ثالثا: المشهد الثالث الذي يبرز فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد دخل في غار ثور قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، ليمشطه ويتأكد من سلامته من أي شيء قد يؤذيه صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلان على بركة الله، وأثناء منامه صلى الله عليه وسلم يلاحظ أبو بكر ثقبا في احد جوانب الغار فيسده برجله خوفا من أن يخرج منه شيء يؤذيه صلى الله عليه وسلم فتلدغه حية ويبقى صابرا صامدا حتى لا ينغص على محمد صلى الله عليه وسلم نومه...
إنه الفداء في أجمل صورة واصدق مدلولاته ومعانيه، وحب الله ورسوله، بدرجة لم يحققها في بواكير الدعوة إلا الصديق رضي الله عنه، بل لا يسايرها أو يسير معها بواد إلا قولته لعمر الفاروق: أينقص الدين وأنا حي" ذلكم الصديق الذي صدق الله فصدقه الله، وعمر الفاروق الذي عمر الأرض عدله وزهده ، فعمر الله منه القلوب، ولئن سبق الصحابة الناس جميعا، بحيث لن يبلغ أحد مد احدهم أو نصيفه، ولو أنفق جبل احد ذهبا، فوعد الله ما زال قائما، وشروط التمكين والنصر لم تتغير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ودلالة الخطاب تكسب المقام والحال ظلالا من القرب والتخصيص أجدر أن تحرك النفوس وتستنهض الهمم إن لم تحلق بها، فاللهم اجعل فينا من يصدقك فتصدقه، وتدله على خطى الصديق وآثاره، ومن يعمر الأرض عدلا وطاعة، فيعمر بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ويخلد فتوحات خالد بن الوليد، لا من يخلد إلى الأرض ويتبع هواه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
-->