لم يتبق الا صناعتنا
- بقلم أ.د.محمد أحمد بصنوي
- 03/07/2023
تستعد المملكة سنويًا لاستقبال الملايين من الحجاج من مختلف أنحاء العالم الذين يسعون لأداء فريضة الحج في الأماكن المقدسة بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وتُنظم أحد أكبر تجمعات البشر على وجه الأرض في ظاهرة فريدة من نوعها عالميًا، وتُعزز الإجراءات الأمنية والاحترازية لضمان سلامة الحجاج من جميع الجوانب، بدءًا من إدارة حركة المرور وصولاً إلى السلامة الطبية والإنسانية، ويتطلب الاستعداد لموسم الحج تنفيذ جهود هائلة في الإدارة والتخطيط والتقنية والبنية التحتية، لاستقبال الحجاج بكفاءة وتسهيل أدائهم لفريضتهم بكل يسر وسهولة.
وعلى مدار السنوات السابقة، لا تدخر المملكة جهدًا أو مالاً في جعل أماكن الحج، التي تشهد أحد أكبر التجمعات الدينية في العالم أكثر أمانا و راحة، حيث بلغت تكلفة مشروع التوسعة الثالثة للحرم المكي ونزع الملكيات100 مليار دولار على الأقل، وبذلك يكون أكبر مشروع بناء في التاريخ وفقًا للعربية، وتهدف توسعة الحرم إلى رفع الطاقة الاستيعابية لزوار بيت الله الحرام لـ 30 مليون معتمر بحلول 2030، تماشياً مع أهداف رؤية 2030، وتقوم هذه التوسعة على خمسة مشاريع أساسية كالتالي: مبنى التوسعة الرئيسي، مشروع الساحات، مشروع أنفاق المشاة، مشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، والطريق الدائري الأول الذي يحيط بالمسجد الحرام، ويضيف مساحة مقدارها الثلثان مقارنة مع المساحة السابقة للمسجد الحرام، حيث من المقدر أن تصل المساحة الإجمالية للحرم المكي إلى نحو مليون ونصف مليون متر مربع، وتطوير المطاف والجسور والساحات الخارجية والمساطب، فضلاً عن تطوير محطات النقل والجسور التي تؤدي للحرم، وتوسيع نفق الخدمات والمباني الأمنية والمستشفى، ويتضمن المشروع إنشاء 78 باباً أوتوماتيكياً يتم إغلاقها بالتحكم عن بعد وتحيط بالحرم في الدور الأرضي.
وفي إطار الحرص على السلامة الصحية للحجاج البيت الحرام، خصصت هيئة الهلال الأحمر السعودي بموسم حج هذا العام، 8 طائرات مروحية من نوع "اقوستا 139" تقدم خدماتها الإسعافية بالمشاعر المقدسة، مُجهزة بأحدث الأجهزة الطبية المتقدمة وأنظمة الملاحة الجوية والكوادر البشرية المؤهلة، ويبلغ معدل الاستجابة للبلاغات الطبية 7 دقائق فقط، وحشدت الهيئة أكثر من 2200 من الممارسين الصحيين لحج هذا العام، موزعين على كامل رحلة الحاج، منذ قدومه إلى أراضي المملكة حتى مغادرته، كما تستعين بنحو 600 موظف من القوى البشرية للدعم اللوجستي للعاملين في الميدان، وتدعم الهيئة القوى البشرية بأكثر من 400 من أسطولها الإسعافي تضم أحدث سيارات الإسعاف المجهزة بأحدث التجهيزات الطبية والتقنيات الحديثة، وتوفر 230 من العاملين في الترحيل الطبي بالعاصمة المقدسة، عبر 9 لغات تعد الأكثر شيوعاً واستخداماَ من قبل الحجاج، لتسهيل التواصل مع المستفيدين والتعامل مع مكالمات الطوارئ الطبية، ومتابعة المريض من قبل الفريق الطبي، حتى وصول الفرق الإسعافية ونقلها إلى المنشآت الصحية المناسبة.
تعمل المملكة بصورة أشبه بخلية النحل وتصرف المليارات لتنظيم موسم الحج، ولاستقبال ضيوف الرحمن بأفضل صورة، وتوفير لهم كل سبل الراحة، لأداء مناسكهم بكل أريحية، ولك أن تعلم أن هناك 37 جهة حكومية تقدم خدماتها للحجاج هذا الموسم، بالإضافة إلى 19 شركة لتقديم الخدمات بمستوى مرتفع، مع وجود أكثر من 18 ألف حافلة لنقل الحجاج، خاصة مع عودة أعداد الحجاج هذا العام إلى ما كانت عليه قبل جائحة كورونا، لما يتجاوز مليونا حاج، ليس هذا فقط ، بل انخفضت تكلفة الحج على حجاج الخارج عن السنوات الماضية بنسبة 39%، لباقة المشاعر التي يستفيد منها أكثر من مليون و400 ألف من خارج السعودية، كما قُدمت خدمة الدفعات الميسّرة لحجاج الداخل، بعد خفض رسوم التأمين الشامل للمعتمر إلى 88 ريالا، ورسم تأمين الحاج إلى 29 ريالا، وتسهيل الإجراءات والتصاريح من خلال الاجراءات الالكترونية وفقًا لتصريحات الدكتور توفيق الربيعة، وزير الحج والعمرة.
ومن الناحية الاقتصادية، يتوقع بعض الخبراء الاقتصادين انتهاء عصر النفط عالميا خلال 20 أو 30 عاما أو حتى 100 عام، ولكن الله عز وجل منح هذا البلد كرما لا ينتهي أبدًا آلا وهو الحج، صحيح أن الحج مناسك ومشاعر دينية، ولكنه في نفس الوقت فرصة اقتصادية [ ليشهدو منافع لهم ويذكرو اسم الله في ايام معلومات .. (الآية)] (٢٧) سورة الحج . حيث يشهد اقبال ملايين الحجاج القادمين من جميع أنحاء العالم ، وهذا يُعزز قطاع السياحة في المملكة، فوفقا لأحدث مؤشر عالمي لمدن الوجهات من "ماستر كارد"، جذبت مكة 20 مليار دولار من الدولارات السياحية في عام 2018، لتحتل المرتبة الثانية بعد دبي، وقبل وباء كورونا كان من المتوقع أن يبلغ متوسط عائدات الحج حوالي 30 مليار دولار سنويًا، وأن يخلق موسم الحج والعمرة 100 ألف فرصة عمل للسعوديين بحلول عام 2022، مع استقطاب حوالي 21 مليون مصلٍ سنويًا خلال فترة الحج والعمرة لمدة 10 أيام، وفقا لبيانات رسمية ذكرتها وكالة "رويترز" للأنباء.
ولك أن تعلم أن الدول حريصة على جذب السياح بالكثير من العروض والمنتجات السياحية، أما نحن فيأتي إلينا الحجاج من كل أنحاء العالم بدون الحاجة إلى دعاية، وخلافه، ولذلك من الضروري وضع خطة اقتصادية للاستفادة من الأسواق في مكة والمدينة، خاصة وأن الطلب ضخم على شراء الهدايا من هذه الأسواق، والعمل على تنشيط العمرة طوال العام، من خلال تشجيع العمرة الجماعية والعائلية المخفضة التكاليف، ويبلغ متوسط ما ينفقه الحجاج القادمون من الخارج على قطاعي السلع والخدمات 7122 ريالا تقريبا، وينفق الحجاج 42% من هذا المبلغ، على الهدايا الرمزية، وتأتي في المرتبة الثالثة نسبة الإنفاق على الملابس بنحو 6.5% ، أي ان الحجاج ينفقون 50% من أموالهم على شراء الهدايا والملابس وفقًا لموقع العربية.
من الممكن الاستفادة من الحج والعمرة في انعاش الكثير من الصناعات مثل صناعة الملابس خاصة ملابس الإحرام، فوفقا لأبحاثنا السابقة وجدنا أن نسبة كبيرة من ملابس الإحرام مستوردة، بل أجرى مركز الدراسات والبحوث بالهيئة العامة للمواصفات والمقاييس والجودة دراسة لمعرفة مدى جودة ألبسة الإحرام الموجودة بالسوق السعودي، وكانت النتائج صادمة، حيث كشفت الدراسة أن ٤١٪ منها أقل من مستوى الجودة المطلوب، وأثبتت الدراسة أن نسبة الإنتاج السعودي لألبسة الإحرام تبلغ ٢٪ فقط، بينما باقي النسبة المسيطرة على السوق من إنتاج دول أخرى، ورغم ذلك لم ترق للمستوى المطلوب، وفشلت ١٠٠ عينة من ملابس الإحرام المستوردة أمام اختبارات الجودة التي شملت مقاومة البكتيريا، ومقاومة الأشعة فوق البنفسجية، ومقاومة الشدة، وانتهت الدراسة إلى أن ٧٣ % من ألبسة الإحرام الموجودة بالأسواق حاليا غير مطابقة للمواصفات، وبعضها مصنوع من مادة البوليستر.
كما أن هناك ضرورة للاستفادة من صناعة الملابس الإسلامية، والاستفادة من المكانة الدينية في نفوس أكتر من 2 مليار مسلم أي 25% من تعداد سكان العالم، فالكثير من الحجاج والمعتمرين يريدون شراء شيئًا صنع في البلد الذي بُعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والبلد الذي يتواجد فيه الحرم، فقد بلغ حجم ما أنفقه المسلمون على قطاع الأزياء الإسلامية تحديدا بلغ 270 مليار دولار، ومن المتوقع ارتفاعه إلى 361 مليار دولار وفقا للتقرير الأخير الصادر بعنوان "واقع الاقتصاد الإسلامي العالمي 2018/2019"، وهذا الامر ذكر بالتفصيل في مقال "فكر داخل الصندوق"، فبالله من أولى أن يحصل على حصة الأسد من هذه الصناعة؟ الإجابة بلا شك البلد الذي نشأ فيه الإسلام، وبُعث فيه رسول هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخيرًا وليس آخرًا، فهناك ضرورة للاستفادة من موارد هذا البلد التي لا تنضب أبدًا، فالله عز وجل منحنا الكثير والكثير من الخيرات، خاصة موسم الحج والعمرة ، فالحج كشعيرة دينية مستمرة حتى قيام الساعة، وبالتالي الأنشطة الاقتصادية القائمة عليه مستمرة وقابلة للزيادة مع مرور الوقت، ولذلك علينا تحفيز جميع الأنشطة التجارية والصناعية القائمة عليه، والاستفادة من موسم الحج والعمرة على حد سواء، بما يعود على هذا البلد الكريم المعطاء بكل خير، وفي نهاية مقالي، لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر لمقام خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين حفظهما الله على ما يبذلونه في توفير الرعاية لحجاج بيت الله الحرام على كافة المستويات والاصعدة ،وازف لهما اطيب التهاني بحلول عيد الاضحى المبارك اعاده الله على الأمة الاسلامية اجمع بكل خير.
بقلم : أ.د محمد احمد بصنوي
لا تتوفر تعليقات بالوقت الحالي