سلسلة مبادرة لا نهضة الا بالصناعة- 36 ( قاطرة التنمية )
- بقلم أ.د.محمد أحمد بصنوي
- 08/12/2019
اذا اردنا النهوض ببلدنا، فعلينا الاهتمام بتطوير التعليم ، خاصة الفني، وهذا الامر لن يتحقق بالكلام أو بالشعارات التي اعتدنا ان تقال ، بل بالأفعال الملموسة على ارض الواقع، فالتعليم الفني يعد جيلًا فنيًا قادرًا على المنافسة بالسوق المحلية والإقليمية والعالمية، ويشارك بإيجابية في تقدم ورُقِّي الوطن ، نحن بحاجة إلى تطوير منظومة التعليم، خاصة أن مخرجات العملية التعليمية لا تتناسب مع التخصصات المطلوبة في سوق العمل، فمعظم الشباب بعد تخرجهم نراهم تائهون في سوق العمل ويقفون على أعتاب الحياة العملية، فما تعلموه في الجامعات والمعاهد الفنية من مقررات اثرية، اكل عليه الزمن وشرب ، ولا يتناسب مع مجريات العصر ، فنحن أمام نظام تعليمي عقيم .
فعلى الرغم من وجود علاقة عكسية عالمية بين البطالة والتعليم ، وهو ما يعني كلما زاد حجم التعليم كلما قلت البطالة ، إلا أن الأمر على خلاف ذلك في بلادنا ، وهو في اتجاه العكس تماما كلما زادت نسبة التعلم زادت نسبة البطالة ، وهذا ماتم ايضاحه في بحث " الخروج من عنق الزجاجة " ، وهو ما يعني ان هناك مشكلة حقيقية في جودة ونوعية مناهج التعليم ، خاصة الفني وهذا ما ذكرناه بالتفصيل في بحث " سلاح القضاء على البطالة " ، فعلى الرغم من اهتمام الدولة بالتعليم خلال الفترة الماضية ، إلا أنه للأسف تم التركيز على الكم لا الكيف، فزادت الجامعات لـ 43 جامعة بحسب آخر تقرير إحصائي أصدرته وزارة التعليم، دون الاهتمام أو التركيز على العلوم التقنية والفنية.
فلك أن تعلم أن مجالا الدراسات الإنسانية والدراسات الإسلامية، استحوذا على 37 % من إجمالي خريجي الجامعات السعودية، حيث بلغ عددهم نحو 37.6 ألف خريج، موزعون على مجال الدراسات الإنسانية، الذي بلغ عدد خرجيه نحو 19.6 ألف خريج، ومجال الدراسات الإسلامية بعدد 18 ألف خريج، أما الأعمال التجارية والإدارة فمثلت 13 % من إجمالي الخريجين بحجم وصل لـ12.8 الف خريج ، حسب تحليل أجرته وحدة التقارير الاقتصادية بصحيفة "الاقتصادية"، أي أن نحو 50 %من إجمالي خريجي الجامعات يتشكلون من تخصصات في الدراسات الإنسانية والإسلامية والإدارية ، وهذه مصيبة كبرى ، فكيف لبلد يريد أن يتقدم ويمتلك أدوات العصر يُعلم نصف أبنائه 3 تخصصات فقط ، فضلاً عن أنها علوم نظرية قائمة على الحفظ والاستذكار .
وإذا نظرنا إلى حجم مخرجات التعليم النظري، فسنجد انفسنا أماما جامعات تنتح لنا شباب عاطل ، ليس لديه متطلبات سوق العمل، فنحن ننفق أموالاً بالمليارات على تعليم شبابنا مهارات لسنا في حاجة لها، وهو ما يعني أننا نهدر المال العام، والدليل على هذا الامر أن 52 % من العاطلين من حملة شهادة البكالوريوس ، وعددهم 403 آلاف مواطن، في وقت يبلغ إجمالي عدد العاطلين نحو 778.9 ألف مواطن وفقاً للهيئة العامة للإحصاء ، لا أقصد بالتأكيد التهكم او التقليل من شأن العلوم النظرية المتمثلة في الدراسات الإسلامية أو الإنسانية مثل علم النفس وخلافه ، ولكنه أطالب بتعليم أبنائنا من هذه العلوم (بالقدر الذي نحتاجه) فقط ، فبالطبع مجتمعنا يريد مهندسين وعمال وفنيين أكثر من أي تخصص آخر.
سنحاول سويًا وضع خارطة عمل لتطوير التعليم الفني، ولكن قبل ذلك فإننا بحاجة إلى وضع أيدينا على أوجه القصور التي يعاني منها التعليم الفني ، التي تتمثل في النظرة المتدنية له ، وضعف الاقبال عليه ، كما أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بتخريج دفعات من التعليم الفني غير مؤهلة لسوق العمل، نتيجة لعدم امتلاكهم المهارات التي تدعم حصولهم على وظائف، نتيجة أن المناهج قديمة جدا وعقيمة لا تواكب متطلبات السوق .
نعم .. يمكننا التغلب على النظرة المتدنية للتعليم الفني، وضعف الاقبال عليه من خلال توعية المواطن بأهمية هذا النوع المهم جدا من التعليم ، والتوسع في تحول التخصصات داخل جامعاتنا للتعليم الفني تعطي درجات البكالوريوس في التعليم الفني مثلما قامت دولة الإمارات العربية المتحدة وهو نظام شبيه بكليات المجتمع، وحقق نجاحا مذهلا في هذا النوع من التعليم وأقبل عليه معظم مواطني الدولة حتى تم تطويره وتحولت الدراسة به إلى دراسة جامعية كاملة تمنح درجة البكالوريوس فيه ، فعندما يشعر الطالب أنه سيلتحق بكلية وليس بمدرسة صناعية سيزيد الإقبال على هذه النوعية من الدراسة المهمة جدا جدا لوطننا الغالي .
أما مواجهة مشكلة اتساع الفجوة بين المخرجات المهنية وبين احتياجات سوق العمل، فتكون من خلال ربط طالب التدريب المهني بالصناعة مثلما فعلت دولة كوريا الجنوبية ، وهو نظام يتحصل فيه الطالب على المعرفة والخبرة في تخصصه عبر دور تعليم يدرس فيها في الصباح نظريا ومصنع أو شركة يطبق فيها في المساء عمليا، ويتقاضى أجرا عليه من أول يوم، كما تحتسب سنوات خبرته من لحظة قيده .. وهذا ماقامت به منذ عقود (على مستوى خريجي الهندسة)شركة ارامكو بالتنسيق مع جامعة البترول والمعادن.
ماذا لو تم صرف نصف ما يتم صرفه على التعليم العالي على تأهيل الكوادر البشرية لسوق العمل الفعلي لملائمة احتياجاته الفعلية، والاهتمام بالكيف والنوع وليس بكمية المخرجات التعليمية من خلال ضمان تمكين نظام التعليم العام من تزويد الطلاب بالمهارات التقنية التي يحتاجها سوق العمل، وبناء برامج تدريبية تلائم احتياجات السوق الفعلية على شاكلة ما تقوم به أرامكو كما ذكرنا ، مع اعتماد معايير عالمية سبقتنا بها معظم الجامعات العالمية لقبول وتخريج الطلاب من خلال التنسيق بين وزارة العمل ومؤسسة التدريب التقني والمهني ووزارة التعليم العالي ، وتوجهات وزارتي الاقتصاد و الصناعة ليكون هناك توحيد للتوجه وسهولة الوصول الى الهدف ، وهذا مااشرنا اليه سابقا في العديد من مقالاتنا على مدى الثلاث سنوات الاخيرة.
فالشاب السعودي متى ما توفرت البيئة العملية والتعليمية المناسبة من حيث التدرج والتطوير المستمر سيبدع في العمل أكثر من قوى العمل الوافدة ، هذا مااثبتته الشواهد العملية على مر العقود .
ليس غريبا أن تحظى كوريا الجنوبية بالتصنيف الأول عالميا في مجال التعليم خلال عامي ٢٠١٦ و٢٠١٧ على التوالي، ببساطة هذه الدولة عندما شرعت في سبعينات القرن الماضي في تطوير نفسها والنهوض باقتصادها، أدركت أن العنصر البشرى أغلى ثرواتها وأقوى آليات نجاحها، فبدأت مباشرة في الاستثمار في عقليته، كما بذلت ما في وسعها لإعداده وتعليمه وتربيته حتى وصل حجم إنفاقها السنوي على منظومة التعليم الابتدائي ٢٩ مليار دولار، أي نحو ٢٠٪ من حجم الميزانية السنوية لها، بينما ألزمت الشركات الكبرى والمؤسسات الصناعية بتمويل المرحلتين الإعدادية والثانوية للطلاب غير القادرين ، ويعد التعليم المهني أحد الموارد البشرية التي تغذى الصناعة بالقوى العاملة الفنية والمتخصصة، حيث يلتحق بهذا النوع من التعليم ٣٥٪من الطلاب عقب المرحلة الاعدادية ، واعتمدت كوريا استراتيجية للتعليم لتغطية الشعب كله وليس على فئات بعينها، وهذا ما جعل نسبة التعليم تصل بها الآن لـ٩٦٪ ، إن تطوير التعليم في كوريا بدأ عندما أدركت الحكومة أن المعلومة هي العنصر الأهم في تطوير البلاد عبر صناعة تعتمد على التصدير وتساعدها في النهوض بالاقتصاد ، فأنشأت لهذا السبب عام ١٩٦٧ حقيبة لنقل العلوم والتقنيات من مختلف دول العالم وتوطينها داخل أراضيها ، وهذا ما اوضحناه مفصلا في بحثنا بعنوان " الاخلاص والتخطيط وحدهما من يصنعان التغير "
وأخيرًا وليس آخر ، فإن التعليم الفني حاليًا هو أحد أدوات التنمية، وبه سنضمن وجود منتجات سعودية تتحدث عنا وتقلل حجم استيرادنا المهول لكل ما نستهلكه ، وبتطويره سوف نضمن مصدر رئيسي لإمداد سوق العمل بالعمالة الفنية المدربة والتي سيكون لها دورًا هامًا في تنمية بلادنا ، فهو لنا " قاطرة التنمية ".
بقلم : بروفيسور / محمد احمد بصنوي
لا تتوفر تعليقات بالوقت الحالي