مناسك الحج الإمام العز بن عبد السلام
on- 2015-08-27 15:35:11
- 0
- 2574
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
قال الشيخ الفقيه، الإمام العالم، السيد الفاضل البارع، مفتي المسلمين، جامع أسباب الفضائل، عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي الشافعي، متعنا الله بطول حياته، وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته:
آداب السفر
ينبغي لمن أراد سفراً أو أمراً مهماً أن يستخير الله عز وجل. وصفة الاستخارة أن يصلي ركعتين، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وأي سورة شاء؛ فإذا سلم قال:
( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - يسميه بعينه - خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به )، فإن قُضي له السفر، أو ما استخار فيه، فليتوكل على الله عز وجل .
إذا عزم على السفر، فيستحب أن يودع أصحابه توديع النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: ( أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم ).
ويزيد المودعون عليها: ( زودك الله في مسيرك البر والتقوى، ومن العمل ما يرضى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما توجهت ).
فإذا ركب الدابة: سمى الله عز وجل، ثم كبر ثلاثاً وحمد ثلاثاًَ، ثم قال: { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون } (الزخرف:14-15) ( اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وَعْثَاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، اللهم اطوِ لنا الأرض، وهوِّن علينا السفر، اللهم زودنا في سفرنا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم إني أعوذ بك من ضَلَع الدين وغلبة الرجال ) رواه مسلم وغيره .
فإن صعد في سفره، كبر ثلاثاً وقال: ( اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال )، فإن هبط وادياً سبح الله عز وجل، وإن نزل منزلاً، قال: ( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء وهو السميع العليم ).
فإن أدركه المساء قال: ( أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) رواه مسلم .
ويقول في الصباح مثل ذلك، ويزيد عليه: ( اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ) رواه أبو داود ، ( اللهم إني أسألك خير ما في هذا اليوم، وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم، وشر ما بعده ) .
فإذا أراد أن يرقد: ( اللهم أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، وإن أمتَّها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) رواه مسلم .
ومتى استيقظ، قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) رواه البخاري . ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي ) رواه مسلم .
وإن مرَّ بقرية، قال: ( اللهم إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ) رواه الحاكم و ابن حبان .
وإذا رأى قومًا يخافهم، قال: ( اللهم أعوذ بك من شرورهم، وأدرأ في نحورهم ) رواه أحمد .
وإن هبت الرياح، قال: ( اللهم إني أسألك خير ما هبت به الرياح، وأعوذ بك من شر ما هبت به الرياح ) .
وينبغي أن يبذل يداه، ويكف أذاه ، ويحسن إلى رفيقه ما استطاع، وإلى الجمَّال، وإلى الجمل، فلا يحمل عليه أكثر مما يطيق، وإن أذن له المكاري؛ فإن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء .
فإن مزح فلا يقولن إلا الحق، فإن الله حرم من الباطل هزله وجده .
وينبغي أن تكون نفقته حلالاً، ليكون أبلغ في استجابة دعائه، ويكون أكثر كلامه بما يعود عليه بالنفع في العاجل أو الآجل، وما عدا ذلك فلا خير فيه .
قصر الصلاة في السفر
وللمسافر إذا فارق محل إقامته وكان سفره أربعة بُرُد، وهي ستة عشر فرسخاً أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين إذا نوى القصر في ابتدائها، ولم يقتدِ في شيء منها بمتمِّم، ولم يشك في نية قصرها، وله أن يجمع الظهر إلى العصر، إن شاء عجل العصر إلى الظهر، فصلاها في وقت الظهر، بشرط أن لا يفرق بينهما إلا بقدر الإقامة والتتميم. وأن ينوي جمعهما عند الإحرام بهما، فإن جمع وقصر فيقول: ( أصلي الظهر قصراً وجمعاً ) وكذلك يقول في العصر، وله أن يؤخر إلى العصر فيجمع بينهما كما وصفت .
التيمم عند فقد الماء
وللمسافر أن يتيمَّم عند فقد الماء، فإن كان معه ما يكيفه لوضوئه وشربه، ورفقاؤه محتاجون إليه للشرب في الحال، فليدع الوضوء وليعدل إلى التيمم، فإن غلب على ظنه أن في جملة رفقائه وأهل القافلة من يتضرر بفقد الماء ضرراً ظاهراً، يقطع به أو يؤدي إلى هلاكه، حَرُم عليه أن يتوضأ به، ويجب بذله لهم، ثم له أن يأخذ عوضه منهم .
الإحرام
فإن كان حاجاً فانتهى إلى ميقاته، فيستحب له أن يغتسل غسل الإحرام، ويأتزر بإزار، ويرتدي برداءٍ، ويكونا أبيضين، وفي أي شيء أحرم جاز، ثم يصلي ركعتي الإحرام، يقرأ فيهما بما شاء، ولا ينوي الدخول في الإحرام حتى يستوي على راحلته، ولا ينويه حتى تنبعث سائرةً، فحينئذ ينوي، ويقرن النية بالتلبية، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينقص منها، فالخير كله فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) متفق عليه. ويرفع صوته بها، ويُستحب تكرارها عند إقبال الليل وإدبار النهار، وعند مزدحم الزقاق، وعند صعود الروابي، وهبوط الأودية، لو ترك التلبية فلا بأس .
محظورات الإحرام
فإذا أحرم كما وصفت حرم عليه بإحرامه سبعة أنواع:
النوع الأول: اللباس: ويحرم عليه ستر رأسه بالمخيط وغيره، وله أن يستظل راكباً ونازلاً، وله أن ينغمس في الماء وإن ستر رأسه، وله أن يغسله بالسدر والخطمي وغيرهما من الغسولات ما لم يكن فيه طيب، ويحرم عليه أن يلبس في بدنه مخطياً محيطاً إحاطة الخياطة، وليس له أن يرتدي القميص واللحاف والرداء المرقع الموصلي، وله أن يرقد على الوسادة والعِمامة، وله أن يتغطى باللحاق ولا يعقد رداءه، وله أن يعقد إزاره ويجعل له حٌجْزَة ويشد فيها تِكَّة، ويلبس النعلين منطبقين وغير منطبقين، وليس له لبس الخف والسميك والجُمجُم، وإن فعل شيئاً مما ذكرناه عامداً افتدى، وأثم؛ فإن كان لعذر حر أو برد أو مرضى افتدى، ولا إثم؛ فإن كان ساهياً فلا إثم ولا فدية .
النوع الثاني: الطيب: ويحرم عليه الطيب، فلا يُطيِّب ثوبه ولا بدنه ولا طعامه، وكذلك يحرم عليه أن يشم الطيب، ولو قعد عند العطار، أو جالس متطيباً، أو قعد عند الكعبة وهي تطيب، فلا بأس بذلك كله. وحكم العامد والناسي والمعذور ما ذكرناه في النوع الأول .
النوع الثالث: دهن الرأس واللحية: حرام، ولا بأس بدهن الجسد، وله أن يسرح شعره ولحيته ما لم يؤد إلى قطع الشعر، ولا بأس بقتل القمل، وله أن يحك رأسه وجسده بيده وغيرها، ولا يخضب شعره، وله أن يكتحل بكحلٍ لا طيب فيه، والكلام في الفدية على ما سبق .
النوع الرابع: إزالة شعر الرأس: إزالة شعر الرأس واللحية والجسد بالحلق، والنتف، والإحراق، والتنوير حرام، وله أن يحتجم ما لم يؤد إلى قطع الشعر، وقَلْمُ الأظافير كحلق الشعر في التحريم، فمن فعل ذلك بعذر فلا إثم عليه، وعليه الفدية، ومن فعله عامداً أثم وعليه الفدية، ومن فعله ساهياً فعليه الفدية وهو غير آثم .
النوع الخامس: النكاح: وهو حرام، مفسد للحج ، موجب للكفارة لمن فعله عامداً، ومن فعله ساهياً فلا شيء عليه، ويحرم عليه النكاح إيجاباً وقبولاً، ويكره أن يكون فيه خاطباً أو شاهداً، فإن عقده لم ينعقد، ولا فدية عليه، ولا بأس بالرجعة .
النوع السادس: مقدمات الجماع: كالقُبلة واللمس والمعانقة، ومهما فعلها عامداً أثم وعليه الفدية .
النوع السابع: الصيد: يحرم عليه الصيد البري المأكول، أو المتولد من المأكول وغيره، وكذلك يحرم عليه أجزاؤه؛ كعقِبَيْه وريشه وسائر أعضائه، ومن قتله عامداً أثم وعليه جزاؤه، ومن كان جاهلاً أو ناسياً فلا إثم عليه، وعليه الجزاء، وهو مثله من النَّعم .
الفدية
والفدية في الجماع بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فسبع من الغنم، فإن لم يجد قوِّمت الفدية بالدراهم، واشترى بها طعاماً وتصدق بها، فإن لم يجد صام عن كل مدٍّ بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، والفدية في غير الجزاء شاة يتخير بين أن يذبحها وبين أن يطعم ستة مساكين ثلاثة أصع، بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يصوم ثلاثة أيام .
والطعام واللحم في جميع ذلك مستحق لأهل الحرم غريبهم ومستوطنهم، ولا يفسد الحج بشيء من هذه المحرمات إلا بجماع العامد؛ وكذلك يفسد بالردة نعوذ بالله من الخذلان .
إحرام المرأة
والمرأة في هذه المحرمات كالرجل، إلا أنها تلبس القميص والسراويل والقناع والخف وجميع أنواع المخيط، ويلزمها كشف وجهها، ولا يلزم الرجل كشف وجهه، والأفضل أن يكشفه .
الدخول إلى مكة والطواف بالبيت الحرام
فإذا انتهى المحرم إلى مكة شرفها الله تعالى فليدخل من ثنية كداء، وهي بأعلى مكة، بعد أن يغتسل لدخول مكة، فإذا دخلها حمد الله عز وجل، فإذا رأى البيت رفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه، ثم يقول: ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام ) رواه البيهقي .
ويدخل المسجد من باب بني شيبة، ولا يُعرج على شيءٍ، وينوي الطواف، ولا يصلي تحية المسجد حتى يقصد الحجر الأسود، وهو مُبتدأُ الطواف، فيستقبله بجميع بدنه، ثم يقبله، ويضع يده عليه، إلا أن يكون عليه ازدحام، فالأولى ترك التقبيل، فيستلمه، إلا أن يكون عليه ازدحام، فالأولى أن يشير إليه بيده، ثم يقول: ( اللهم إيماناً بك، ووفاءً بعهدك وتصديقاً بكتابك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ) ويجعل وسط الرداء تحت عاتقة الأيمن، ويضع طرفيه على عاتقه الأيسر، ثم يجعل البيت على يساره، ويطوف سبعة أشواط، من الحجر إلى الحجر، يرمُل في الثلاثة الأُوَل، و( الرَّمَل ): هو الإسراع، وليس بالشديد. ولا رَمَلَ على المرأة، ويمشي في الأربعة الأُخر على السكينة، وكلما حاذى الركن اليماني استلمه وقبَّل يده، ولا يقبِّله، فإن لم يمكنه إلا سلامٌ أشار إليه باليد. ويقول في الثلاثة الأُوَل كلما حاذى الحجر الأسود: ( الله أكبر، اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً ) وكلما حاذاه في الأربعة الأُخَر قال: ( رب اغفر وأرحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم ) ويدعو بما شاء ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم .
ولا يلبي في الطواف، وله أن يقرأ القرآن في طوافه، والدنو من البيت مستحب، إلا أن يفوِّتَ عليه الرَّمَل أو يصادم النساء، فالبعد أفضل، ولا يجوز أن يطوف مستصحباً لنجاسة أو حدث، أو مكشوفَ عورة .
ولا يفتقر شيء من أركان الحج والعمرة إلى الطهارة والستارة سوى الطواف، ولا يجوز أن يطوف على شادوران الكعبة، فإن خالف شيئاً من ذلك لم يعتد بطوافه، وقد أزيل بعض الشادروان عند الحجر من جانبي الركن، فينبغي لمن قبَّل الحجر أن يكون طوافه خارجاً عن القدر الذي أزيل، ولا رمل إلا في طواف القدوم، فإذا فرغ من هذا الطواف صلى ركعتي الطواف عند المقام، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية: { قل هو الله أحد } فإذا فرغ منهما أتى الحجر الأسود فيستلمه .
السعي بين الصفا والمروة
ثم يخرج عَقِبَيه من باب الصفا، فيصعد على الصفا في الدرج، ثم يكبر ثلاث مرات، ثم يقول: ( الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون ). ثم يدعو بما أحب، ثم يدعو ثانياً وثالثاً، ثم ينزل عن الصفا، ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر نحواً من ستة أذرع، فيشتد مسارعاً إلى الميلين الأخضرين، ثم يمشي حتى يأتيَ المروة، ويفعل عليها كما فعل على الصفا، ثم يعود إلى الصفا ماشياً في مكان مشيه، وساعياًً في موضع سعيه، حتى يأتي الصفا، وهذان شوطان، ويأتي بخمسة أشواط بعدها، ولا يصح إلا أن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، ويجوز أن يسعى بينهما وهو محدث ونجس وجنب، إلا أن الأولى ما ذكرت.
الوقوف بعرفة
ثم يمضي إلى عرفة ويجمع بها بين الظهر والعصر، ويأتي بواجبها وقف حارماً نائماً أو مستيقظاً. وليس صعود الجبل سنة، ولا الوقيد ليلة عرفة .
والليلة التي يبيتون فيها بعرفة، وهي الليلة التاسعة من ذي الحجة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت بها بمنى، فمن ترك المبيت بمنى وبات بعرفة فقد ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأفضل للواقف أن يقف بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، ويستقبل القبلة، ويكثر من الدعاء والتضرع والابتهال، ويكون أكثر قوله: ( لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) رواه الترمذي ، ويكره له صوم هذا اليوم ليتوفر على الدعاء وذكر الله تعالى .
المبيت بمزدلفة
فإذا غربت الشمس من يوم عرفة، دفع إلى المزدلفة غير مسرع، وعليه السكينة والوقار، فإذا وجد فرجة أسرع، ويبيت بمزدلفة، ويأخذ منها حصى الجمار، ومن حيث أخذ جاز، ويلتقطه التقاطاً، ولا يكسره، ويستحب أن يغسله، ويكون عدد ما يأخذه سبعين حصاة على قدر الباقلَّى، لا أصغر ولا أكبر، ثم يصلي الصبح في أول وقتها، ويقف على المشعر الحرام أو عنده، ويدعو ويذكر الله عز وجل إلى أن يسفر الصبح، ويستحب له أن يقول: اللهم كما وقفنا فيه، وأويتنا إليه، وأريتنا إياه، فوقفنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } (البقرة:198).
ثم يسير إلى منى وعليه السكينة والوقار. فإذا بلغ وادي محسر أسرع إن كان ماشياً، وحث دابته إن كان راكباً قدر رمي حجر .
الوصول إلى منى ورمى جمرة العقبة
فإذا أتى منى رمى سبع حصيات إلى جمرة العقبة واحدةً واحدة، ويرفع يده عند الرمي حتى يرى بياض إبْطَيْه، ويكبر مع كل رمية، ثم ينحر هديه إن كان معه هدي، ثم يحلق أو يقصر، والحلق أفضل، والإحراق والنتف والتنوير، قائم مقامه، ثم يدخل في يومه بعد الزوال وقد ليس ثيابه المخيطة، وتطيب، ولم يبق من المحرمات السبع المذكورة سوى الجماع، فيطوف طواف الإفاضة، وإن كان سعى بعد طواف القدوم، كما وصفت فلا يعيد السعي بعد هذا الطواف .
المبيت بمنى ورمي الجمار
ثم يخرج إلى منى فيبت بها ليلة الحادي عشر، فإذا زالت الشمس يوم الحادي عشر بدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخِيف، فرمى إليها سبع حصيات، كما قلنا في جمرة العقبة، فإذا فرغ من رميها تنحى قليلاً ثم دعا الله عز وجل، وألح في الدعاء طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم أتى الجمرة الوسطى ففعل ذلك، ثم أتى جمرة العقبة فختم، إلا أنه يقف عندها ولا يدعو، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يفعل كذلك في اليوم الثاني عشر، ويفعل كذلك في اليوم الثالث عشر، إن لم ينفر في الثاني عشر .
أركان الحج وواجباته وسننه
وللحج أركان وواجبات وسنن:
فالأركان: مالم يتم الحج إلا بفعلها؛ وهي خمسة: الإحرام، والوقوف، والطواف بعد الوقوف، والسعي بعد أي طواف كان، وإزالة شعر الرأس أو بعضه بالحلق أو التقصير أو ما قام مقامها .
الواجبات: ما تجبر بالدم؛ وهي وقوع الإحرام من الميقات والرمي كما ذكرت .
وأما الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بالمزدلفة، والمبيت ليالي منى، وطواف الوداع للآفاقي، ففي هذه الأربعة خلاف بين العلماء .
والسنن: ما عدا الواجبات والأركان مما ذكرناه .
مغادرة مكة
فإذا أراد مفارقة مكة، فيكون آخر أعماله أن يطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين عند المقام، ثم يأتي الملتزم، فيضه صدره وخده عليه، ويبسط عليه عضدَيْه وذراعيه، ثم يقول دعاء آدم عليه السلام: ( اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فأعطني سُؤلي، اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقينياً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلى ما كتبت لي، والرضا بما قضيت علي ).
( اللهم إن البيت بيتك، والعبدَ عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى تسيرني في بلادك، وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضىً، وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغبٍ عنك، ولا عن بيتك؛ اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي خير الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير ).
ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن يدخل البيت حافياً، ويصلي فيه ما لم يضر بأحدٍ أو يهتك حرمه .
العمرة
وأفعال العمرة مشهورة، ويفسدها ما يفسد الحج، وإحرامها كإحرامه، وطوافها وسعيها كطوافه وسعيه، والحلق فيها مثله في الحج .
زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والسنة أن يزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي الداخل إلى مسجده ركعتين تحية بين القبر والمنبر، ثم يأتي القبر من وجهة، ويكون بينه وبينه نحواً من ثلاثة أذرع، فيقول: ( السلام عليك يا رسول الله، أو يا نبي الله، ولا يقول يا محمد، لأنهم كانوا يدعونه باسمه، فأنزل الله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } (النور:63) ويخفض صوته، ولا يبالغ بالجهر به، ولا يدنو من قبره، والأدب معه بعد وفاته مثله في حياته، فما كنت صانعه في حياته، من احترامه، والإطراق بين يديه، وترك الخصام بين يديه، وترك الخوض فيما لا ينبغي أن يخوض في مجلسه فيه، فدعه فيه، فإن لم يفعل وأبيت، فانصرافك خير من بقائك، فإذا أردت صلاة، فلا تجعل حجرته وراء ظهرك ولا بين يديك، وسلم بعد سلامك عليه على أبي بكر، ثم على عمر، وادع ربك أن يجازِيَهما عن نصرهما رسوله، وقيامهما بحقه، وادع لنفسك ولوالديك .
وزُر مسجد قُباء، وزر قبور الشهداء بأحد، وخص حمزة بالزيارة منفرداً. والرجوع قهقرى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند البيت بدعة لم يُفعل في الصدر الأول، وإنما يفعلهما عوام النساك، والخير كله في اتباع السلف، رحمة الله عليهم أجمعين.
اللهم كما بدأت به فتمِّمه، وما أعطيته فلا تسلبه، وما سترته فلا تفضحه، وما علمته فاعف عنه برحمتك يا أرحم الراحمين.
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.