تيماء .. مهد حضارات ومنطلق فتوحات
on- 2022-11-13 16:11:42
- 0
- 494
نحو 264 كيلومترا جنوب شرقي منطقة تبوك، تقع محافظة تيماء، المحافظة الغنية بالآثار والمعالم التاريخية، ربما ساعدها في ذلك موقعها الاستراتيجي وخصوبة تربتها واعتدال مناخها ووجود بئر غزيرة، فسكنتها الحضارات القديمة وتعاقبت عليها على مدى العصور، فأصبحت واحدة من أبرز مدن شمال الجزيرة العربية تجاريا واقتصاديا وزراعيا.
تعد تيماء من الواحات القديمة التي عثر فيها على آثار تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، فكانت حاضرة في العهد الآشوري، ومن ثم البابلي، حين اتخذ الملك نبوخذ من تيماء مستقرا له بل وعاصمة لدولته، قضى فيها عشر سنوات من سنين حكمه. ونهضت تيماء بقوة في عهد عاديا الأزدي القحطاني، وازدهرت أكثر في عهد حفيده السموأل بن حيا، ذلك الملك الشاعر الحكيم مضرب المثل في الأمانة والكرم، لتصبح مدينة إسلامية فيما بعد. ولى الرسول صلى الله عليه وسلم يزيد بن أبي سفيان عليها، وكانت تيماء منطلقا للفتوحات الإسلامية، وقد مرت خلال العصر الإسلامي بأحداث عدة، وكانت تظهر تارة وتخبو تارة، حتى العصر السعودي حيث بدأت تيماء بالنمو وشهدت ازدهارا في مختلف الصعد، وأكسبها تراثها الثقافي والتاريخي شهرة واسعة.
تكتنز تيماء الكثير من المعالم الأثرية التي غاب عنها الاهتمام الإعلامي، بداية من سورها الخارجي الذي يحيط بتيماء القديمة من جميع الجهات عدا الشمالية، وهو من أطول الأسوار في الجزيرة العربية وأكثرها تحصينا، ويمتد لأكثر من عشرة كيلومترات، مشيد من الحجارة، وفي بعض أجزائه من اللبن والطين، وارتفاعه في بعض الأجزاء أكثر من عشرة أمتار، ويقل في أخرى حتى يصل إلى متر واحد تقريبا، وعرض الجدار يراوح بين متر ومترين، ويعود تاريخ بناء السور إلى القرن السادس قبل الميلاد.
ومن السور إلى قصر الحمراء، وهو مبنى مكون من ثلاثة أقسام يقع شمال تيماء، الأول معبد، والآخرين للسكن، أحدهما شيد ضمن فترة المعبد، ثم أضيف الجزء الجنوبي من القصر خلال فترة لاحقة تم الكشف عنه عام 1979م، ومن أهم معثوراته مسلة تحمل نصا آراميا، وحجر مكعب يحوي مشاهد ورموزا مختلفة.
يعود تاريخ القصر إلى القرن السادس قبل الميلاد، ويقال إنه الموقع الوحيد الذي يظهر تاريخه بشكل واضح.
كما تحتضن تيماء قصر الرضم، وهو مربع الشكل تقريبا، وفي وسطه بئر، وجدرانه مشيدة من الحجارة المصقولة عرضها نحو مترين، وله دعائم من الخارج، ويعود تاريخه إلى الألف الأول قبل الميلاد، وكذلك قصر البجيدي، الذي تم الكشف عنه عام 1412هـ، وهو مربع الشكل تقريبا، وفي أركانه أبراج دائرية، وكُشف خلال عمليات التنقيب فيه عن نقوش إسلامية تشير إلى أن الموقع يعود إلى العصر الإسلامي المبكر.
ومن معالم تيماء الأثرية المميزة تل الحديقة، ويقع وسط المدينة السكنية الحديثة، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد تقريبا، وقد تم الكشف عن بعض أجزائه، وعثر فيه على كمية كبيرة من الفخار تشير إلى الكثافة السكنية وازدهار صناعة هذه المادة المهمة.
ومن آثارها موقع "قرية"، وهو موقع كبير تزيد مساحته على 300 هكتار، ويحتوي على كثير من المعالم العمرانية المشيدة من الحجارة والقصور والمباني المدنية والمنشآت الزراعية من آبار وقنوات ري ومرافق متعددة، ويحتوي الموقع على مدافن من الفترة الآرامية، وهذه المنطقة محصنة بسورين داخلي وخارجي، تعلوهما أبراج مراقبة تتركز في الجهتين الجنوبية والغربية، التي كشفت عن تاريخها البعثة السعودية الألمانية، وبينت أن سور الموقع يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الـ 19 قبل الميلاد.
وتحوي تيماء مصنعا للطوب الفخاري داخل المنطقة السكنية الجديدة (حي الروضة)، لم يكشف عنه بالكامل، لكنه يشير إلى قيام مصانع لإنتاج الطوب الفخاري، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
هنا يجدر بنا التوقف عند معلم أثري مهم وهو بئر هداج، من أشهر الآبار وأغزرها التي عرفها العالم القديم، ويعود تاريخها إلى منتصف القرن السادس من الألف الأول قبل الميلاد. تعرضت البئر خلال تاريخها إلى كثير من الأحداث حتى اندثرت تماما بسبب طوفان اجتاح المدينة في عصر الملك السموأل بن عاديا الغساني في القرن الخامس الميلادي، كما أنه من المحتمل أن البئر قد تكون تضررت بسب الزلزال الذي ضرب تيماء في القرن السادس الهجري، ونالها التخريب كذلك في القرن السابع الهجري بعد أن تعرضت لطوفان آخر وبقيت البئر مطمورة بالكامل، حتى أعيد حفرها قبل 400 عام تقريبا على يد رجل يدعى سليمان بن غنيم، ولا يزال كثير من أهالي تيماء ينتسبون إلى هذا الرجل، لتعود بئر هداج للعمل والعطاء وتستمر في إمداد البلد بالمياه بواسطة السواني حتى عام 1373هـ.
ويبلغ قطر بئر هداج نحو 50 قدما، وعمقها نحو 40 قدما، ذات شكل دائري غير منتظم مطوية بالحجارة؛ ضرب بها المثل في الكرم، فيوصف الرجل المعطاء بهداج تيماء.
ولبئر هداج أهميتها إذ جعلت من تيماء مدينة زراعية كثيرة النخيل، وذلك لسعتها ووفرة وعذوبة مائها، حيث كان يشرب منها 77 جملا في وقت واحد كما يقال.
ويقول الرحال فيلبي، وهو أول من كتب عن هداج بئر وأخذ صورة فوتوغرافية بالحالة القديمة للبئر قبل 40 عاما، وأنها كانت موردا لكثير من قوافل الجمال وقطعان الماشية التي تقصدها من أماكن بعيدة للسقيا، هذا علاوة على أن الواحات الزراعية المجاورة كانت تروى من مياه هذا البئر، وتستطيع البئر أن يسقي منها 99 جملا دفعة واحدة أثناء فصل الصيف القائظ، وتنقل المياه من البئر بواسطة قنوات يبلغ عددها 31 قناة مبنية من الحجارة.
وعن مسمى بئر هداج، يذكر خبير الآثار الدكتور عبدالرحمن الأنصاري في كتاباته عنها أن هناك صلة بين لفظ "هداج" واسم "هددو" أو "أدد"؛ إله الماء لدى الساميين، وخاصة الآراميين الذين استوطنوا تيماء أوائل الألف الأول قبل الميلاد.
وبجوار بئر هداج من جهة الشرق يقع قصر الطلق، وملحق بالقصر مسجد قديم، ومساحته التقريبية نحو 800 متر مربع، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الـ 12 الهجري، وحي قريان وهو أحد الأحياء التراثية المتبقية في تيماء ويتميز بقربه من موقع قرية الأثري، وهناك عدد من المباني التراثية في تيماء تبقى منها قلعة الناجم، وقلعة البويضا، وقلعة علي الرمان بحي الطعيس.
في تيماء قصر السموأل (الأبلق الفرد)، الذي اكتسب شهرة واسعة، وأسهبت المصادر التراثية في الحديث عنه، وصاحبه الملك السموأل بن عاديا الأزدي القحطاني، وفي ذلك يقول السموأل: بنى لي عاديا حصنا حصينا وماء كما شئت استقيت.
وقد استمد هذا الحصن شهرته بسبب حصانته وشكله المعماري المميز الذي تفرد عن قصور الجزيرة الأخرى، حيث عُرف بأسماء عدة، لكن الأشهر هو الأبلق الفرد، والأبلق تعني البناء المشيد من الحجر الأبيض والأحمر، وقد أشادت زنوبيا ملكة تدمر في القرن الثالث الميلادي بهذا الحصن بعد أن فشلت في إخضاع دومة الجندل وتيماء بسبب حصانتهما، وقالت قولتها المشهورة: "تمرد مارد وعز الأبلق".