ابن خلدون (مؤسس علم الاجتماع )

on
  • 2017-07-22 20:02:04
  • 0
  • 1415
سيرة حياته :
هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون و لقبه ولي الدين، وُلِدَ في تونس يوم الخميس الأول من رمضان عام 732 هجري، الموافق السابع و العشرين من مايو عام 1332 ميلادي.

كانت عائلة آل خلدون عائلة نبيلة وعريقة و مرموقة في تونس، ففي القرن الهجري الأول هاجر جدها خالد من ديار حضر موت في اليمن إلى إشبيلية في الأندلس، و تعظيماً لشأن خالد صُغِّرَ اسمه على الطريقة الأندلسية فقالوا (( خلدون )) و كانت عائلة خلدون واحدة من أقوى وأكبر ثلاث عائلات يمنية الأصل في اشبيلية، و مما يُعرَف عن الأسرة الخلدونية أنها تقلدت المناصب السياسية الرفيعة، فكانت لهذه الأسرة الشأن العظيم منذ الأمويين إلى عهد الطوائف ثم المرابطين فالموحدين حتى اضطرت إلى الجلاء من اشبيلية متوجهة إلى تونس ، و كان والد عبد الرحمن مُحباً للعلم والمعرفة، فإبتعد عن السياسة التي سار عليها أبائه، حيث تفرغ إلى التاريخ واللغة و صارت له في مَنزِلَهُ الكبير حلقة علمية أدبية يتردد عليها الأدباء و العلماء من أهل تونس و يَفِد إليها الأدباء و العلماء من الأندلس و المغرب الكبير بأسره ، و كان عبد الرحمن لديه أربعة إخوة محمد و يحيى و عمر و موسى و هو في الترتيب يُعدُّ الأوسط بينهم .

وفي صِغَر محمد، كان أبوه مُعلِّمُهُ الأول عندما بلغ سن التعلم، ثم بعدها انتقل إلى  الحلقات التي كان يقيمها والد عبد الرحمن حيث أتيح له ولأخوته أن يتلقوا تعليماً ممتازاً على أيدي أفضل العلماء و الأدباء ، فقد حَفِظَ القرآن الكريم بِقِراءاته السبعة و حفظ الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة و درس على أيديهم التفسير و الفقه على المذهب المالكي، و قد درس أيضاً الفلسفة و المنطق و علوم اللغة و النحو و الصرف و البلاغة و الأدب و الكثير من أشعار العرب و درس أيضاً العلوم الرياضية و العلوم الفلكية و الطبيعة و الفلسفة و المنطق ، فلقد نشأ نشأة العلماء ودرس على أيدي العلماء ، و قد تحدث ابن خلدون عن أساتذته و خصَّ منهم بالذِّكر أستاذه ( محمد بن عبد المهيمن الحضرمي ) الذي درس على يديه الفقه و التفسير و الحديث و علوم اللغة ، ثم خصَّ بالذِّكر ( أبا عبد الله محمد الأُبلي ) والذي درس على يديه العلوم الرياضية والمنطق .

لم يصلنا الكثير عن حياة ابن خلدون في طفولته حتى العام 17 من عمره، فكانت هذه المرحلة من عمره غامضةٌ علينا .
في سن السابعة عشر كان ابن خلدون قد أنهى دراسته على أيدي العلماء وبدأ مرحلة التحصيل العلمي بدون مساعدة، حيث غاص في المراجع و شارك في المناقشات مُعتَمِداً على ما حصَّلَهُ من العِلم ، و كانت تونس في ذلك الوقت في أيدي الحفصيين و كان السلطان أبو الحسن سلطان المغرب الأقصى يحاول توحيد المغرب الكبير فاستولى على تونس وانتزعها من بين الحفصيين و كان قبل ذلك قد انتزع المغرب الأوسط ( الجزائر حالياً ) من أيدي ( بني عبد الواد ) و قبلها كان قد انتزع جبل طارق من أيدي الفرنجة فأكمل فتوحاته باجتياحه  تونس .

و كان ابن خلدون كارهاً لذلك و في نفس الوقت كان مُحباً لما فعل أبو الحسن،  فكان كارهِاً عندما استولى على تونس و مُحباً عندما أرجع الوحدة للمغرب الكبير و قدوم العديد بل العشرات من علماء المغرب و الأندلس الذين يُشكِّلون مجالس العلماء في كل بقاع تونس .

و في العام 749 هجري / 1348 ميلادي جاء وباء الطاعون وكان قد اجتاح معظم أنحاء العالم شرقاً وغرباً، فبدأً من سمرقند إلى المغرب و عصف بالأندلس و مُعظم البلاد الأوروبية و قضى على أرواح الكثير الكثير من الناس و من بينهم والدا ابن خلدون و مُعظم العلماء الذين جاءوا مع أبو الحسن، و وصف ابن خلدون هذه النكبة الكبرى بأنها (( طوت البساط بما فيه )) و حصلت نكبة أخرى في نفس العام، فقد سافر أبو الحسن و مُعظم العلماء الذين نجوا من الوباء إلى مدينة فاس فخلت مِنهُم مجامع العلم و الأدب في تونس . و في السنة التالية أُصيب المغرب الكبير بمجاعة أضعفتهم أشد الضعف بعدما خسروا الألوف من الأرواح بسبب الطاعون ، فخرج ما بقي من العلماء في تونس لاحقين أبو الحسن إلى فاس .

فكر عبد الرحمن باللحاق بأبو الحسن و العلماء إلى فاس و استشار أخوه الأكبر محمد بالذهاب إلى فاس فنصحه بالتمهل و قال له : 
" لا تتعجل يا عبد الرحمن وانتظر إلى أن تهدأ الأمور فالمغرب كله شديد الاضطرابات "
فاقتنع عبد الرحمن بالبقاء في تونس .

بعد رحيل أبي الحسن عن تونس، زحف إلى تونس الأمير الفضل الحفصي بجيشه لاسترداد مُلك أسرته، فاسترد تونس تحت سيطرته وجعل (ابن تافراجين) وزيراً له، و لكن الوزير خان أميره فانقلب عليه وعزله من مُلكِهِ و سَجَنَهُ و ولَّى مكانه أخاه الصغير ليظل الوزير صاحب القرار و السُلطة بإسم السلطان الصغير. 

وجاء يوماً إلى عبد الرحمن أخاه محمد و قال له :


" ابن تافراجين يطلبك و لا يريد غيرك لتكون كاتب العَلاَمةِ ( المقدمات البليغة لرسائل الدولة ) في قصر السلطان "

فذهب ابن خلدون إلى الوزير و قَبِلَ بالوظيفة خوفاً من بَطشِهِ بآل خلدون، فقد عرف عنه أنه وزيراً مُستبد ، و كان قد بلغ من العمر 20 عاماً . 

خرج ابن خلدون مع الوزير ابن تافراجين في حملة حربية لوقف زحف أحد الأمراء إلى تونس و لم يكن خروج ابن خلدون إلا نوعاً من الفضول لرغبته في الإطلاع على طبيعة الحرب ، بدأت المعركة و بدا ان جيش الوزير ابن تافراجين قد خسر، فسادت الفوضى في المعسكر و عندما هبط الليل هرب ابن خلدون من المعسكر ، ولم يكُن مُتَّجِهاً إلى تونس بل اتجه غرباً في البلاد، فزار (هوارة) و اجتاز بلادً و بِلاد حتى وصل إلى مدينة ( بسكرة ) وهي تقع في الجزائر . و كان مع ابن خلدون بعض المال، فقرر البقاء هنالك حتى انتهاء الشتاء ، أُعجب ابن خلدون بابنة القائد محمد بن الحكيم فتزوجها وكان عمره آن ذاك 23 عاماً في عام 755 هجري / 1354 ميلادي .

كان السلطان أبو الحسن قد توفي و انفرطت من بعده فتوحاته في المغرب الكبير، فتولى بعده ابنه أبو عنان و كان شُجاعاً طموحاً، فأراد أن يسترد المُلك في تونس فسار بجيشه إلى تونس و لكن الأمير ( أبي عبد الله الحفصي ) سلَّم تونس إلى السلطان أبو عنان دون قتال، فأقام السلطان في تلمسان ، فسمع ابن خلدون بما حدث في تونس فسافر إليها و ترك زوجته في بسكرة . و عندما وصل ابن خلدون إلى تلمسان عرض خدماته على السلطان أبو عنان، فجعله السلطان في صحبته و مجلسه حتى يعود إلى فاس ، وعندما عاد السلطان إلى فاس ذهب ابن خلدون معه و مرَّ على مدينة بسكرة و أخذ زوجته معه و عاد ليكمل طريقه إلى فاس، وعندما وصل عيَّنَهُ السلطان أبو عنان كاتباً للعلامة وضمَّهُ لمجلسه العلمي .

وفي فاس وضعت زوجة ابن خلدون مولودها الأول و أسمياه ( زيد ) فأصبح يُلقَّب ابن خلدون بأبو زيد . و عاد أبو زيد إلى مُجالسة العلماء و مُناقشتهم في فاس، و من بين هؤلاء العلماء 
( ابن الصفار ) إمام القراءات و أيضاً ( المُقري ) القاضي ، و ( العلوي ) المتفلسف ، و ( البرجى ) الكاتب ، فنال أبو زيد الإجازات العلمية منهم جميعاً .

و كان أبو زيد يزور في سرٍ الأمير ( أبو عبد الله الحفصي ) في سجنه و يضع معه خطة تحريره من السجن فوعده الأمير برئاسة الوزراء إذا نجح بتحريره ، و لكن ذلك وصل إلى السلطان أبو عنان، فأمر بزج أبو زيد في السجن .
حُكِمَ على أبو زيد بالسجن مدة عامين ، و طوال تلك المدة لم ينقطع أبو زيد عن ترجِّي السلطان بالعفو عنه و لكن دونما جدوى، و في يوم من الأيام قام أبو زيد بكتابة 200 بيت من الشِعر فلما قراءها رق قلب السلطان أبو عنان فوعده بإخراجه من السجن و لكن السلطان توفي قبل أن يفي بوعده .

تولى الحكم بعد السلطان أبو عنان ابنه الصغير عنان، و لكن أمور الحكم كانت بين يدي الوزير الحسن بن عمر، فقام بالإفراج عن المسجونين و من بينهم أبو زيد  ليتخذهم أعواناً و كان ذلك عام 1358 ميلادي / 759 هجري وكان عمره 28 عاماً .

أكرم الوزير الحسن بن عمر، أبو زيد، و أعطاه الكثير من المال و لكن أبو زيد كان دائم القلق من الوزير ، و في يوم من الأيام ثار منصور بن سليمان على الوزير و قتله و انتزع لنفسه الحكم و أعاد أبو زيد إلى عمله ككاتب للعلامة .
قَدِمَ إلى فاس أبو سالم، و هو أخٌ لأبي عنان و معه جيشه و وزيره ابن مرزوق، لاسترداد حكم أهله في فاس و نجح بذلك بمساعدة أبو زيد فقرَّبَهُ إليه و وظَّفَهُ كاتب السر .

إستقرت حياة ابن خلدون بعد توليه منصب كاتب السر، فيبدع في كتابة الرسائل و الشعر و يمضي على عمله في كتابة السر عامين ، بدأ الوزير ابن مرزوق يخاف من ابن خلدون، فلقد تقرب من الأمير أبو سالم كثيراً، فخشي على ذهاب منصب الوزارة ، طلب السلطان أبو سالم من ابن خلدون الحضور و قال له :

" لقد سمعت مدى ما أنت عليه من العلم بالشريعة و الفقه و نعف حرصك على الصدق و العدل و لذلك فإني أمِرٌ بتوليك منصب القاضي إلى جانب عملك في كتابة السر "

فتضاعفت سعادة ابن خلدون بتوليه منصب القضاة بالإضافة إلى منصب كاتب السر ، و تأكدت مخاوف الوزير ابن مرزوق عندما علم  أن ابن خلدون قد تولى منصب القضاء، فقام بتدبير الدسائس و الوشايات لإبعاد ابن خلدون عن أي مناصب جديدة .

نجح الوزير ابن مرزوق بإبعاد ابن خلدون عن السلطان فأقاله من منصبيه و بدا لابن خلدون أن أيام السعادة قد ذهبت ، و صَدَقَت مخاوف ابن خلدون فلقد ثار الوزير عمر بن عبد الله على السلطان أبو سالم وخلعه من سلطانه و تولية أخيه ( تاشفين ) سُلطاناً على العرش، و كان عبد الرحمن قد بلغ من العمر 31 عاماً و كان ذلك عام 761 هجري / 1360 ميلادي .

و كان الوزير عمر صديقاً لابن خلدون فسارع ابن خلدون بإعلان ولائه له، فأقرَّه هذا الوزير على كتابة السر و ديوان المظالم، و زاد في راتبه و منحهُ أملاكاً و أراضي، فوثق السلطان تاشفين بإبن خلدون، فخشي الوزير عمر من ابن خلدون، فقد يصبح وزيراً فأخذ يُدبِّر له المكائد و الدسائس ، فشعر ابن خلدون بِقُرب الشر فرغب بالرحيل عن فاس خوفاً من خطر السجن أو القتل، فقبل الوزير عمر، جهَّز ابن خلدون نفسه للسفر و بعث بزوجته و ولده إلى أخوالهم و انطلق ابن خلدون إلى مدينة غرناطة في الأندلس .

لمَّا شارف ابن خلدون على الوصول إلى غرناطة، فوجئ بالأمير محمد الخامس و وزيره ابن الخطيب يستقبلانه خارج غرناطة مع كبار القادة و الفرسان ، عاش ابن خلدون قُرابة عام مُعزَّز مُكرَّم في مجلس السلطان يُشارك الأمير و وزيره في مجالسهما و رحلات صيدهما، و كان ابن خلدون يُحب أن يخلوا بنفسه في مكتبة غرناطة العامرة الضخمة يقرأ من كتبها الكثيرة، و طابت له الحياة في غرناطة و بدأ بتأليف أول كتبه هنالك، فلقد كتب رسالة في المنطق و شرحاً موجزاً لمؤلفات (ابن رشد) ثم دعاهُ السلطان محمد الخامس إليه و قال له :


" إني بحاجة إليك يا عبد الرحمن، فإني سأعهد إليك بمهمة دقيقة في (اشبيلية) لدى ملكها بطرس الرهيب لتهدئة الأوضاع و تنظيم العلاقات السياسية بيننا و لإبرام معاهدة سلام "

فوافق ابن خلدون على الذهاب و انطلق حتى وصل اشبيلية فاستقبله الجند و ساروا به حتى وصلوا إلى قصر ملك اشبيلية فرحب به و بما جاء من أجله و اتفقوا على معاهدة السلام و عاد ابن خلدون إلى غرناطة فَرِحاً بما قام به .
فرح الملك محمد الخامس بنجاح ابن خلدون وارتفع قدرهُ عنده، فوهب إلى ابن خلدون بقرية مجاورة لغرناطة مكافأة له فزاد دخله فاستأذن من السلطان محمد الخامس بإستقدام أسرته إلى غرناطة فأذن له السلطان و قام بأمر أسطوله بنقل أسرة ابن خلدون و المجيء بها إلى هنا .

وصلت أسرة ابن خلدون إلى غرناطة فاستقبلهم ابن خلدون و معه السلطان محمد الخامس و وزيره إبن الخطيب استقبال الملوك، فالتئم شمل العائلة من جديد، و توطدت العلاقة بين ابن خلدون و السلطان و الوزير، و طاب لابن خلدون العيش هناك فأمضى عامين أيضاً ، و لكن حُسَّاد ابن خلدون لم يدعوه لوحده، فقاموا إلى الوزير ابن الخطيب يُحذِّرونه من عاقبة العلاقة الوطيدة بين ابن خلدون و السلطان فإستجاب لهذه الوشايات و اخذ بدوره إيقاع قدر ابن خلدون عند السلطان ، و لكن ابن خلدون شَعَرَ بمؤامرة يقودها ابن الخطيب فيأخذ من جديد يتطلع إلى دول و إمارات جُدُد و تجيء دعوة جاهزة إلى ابن خلدون، فلقد وصلت إليه رسالة من أبو عبد الله الحفصي أمير بجاية و كان قد نجح في العودة إلى إمارته و يُريد أن يوفي بوعده الذي وعدهُ لابن خلدون بتقلده رئاسة الوزراء فاستجاب ابن خلدون لهذه الرسالة و انتقل إلى بجاية، و كان عمره 34 عاماً و كان ذلك عام 764 هجري / 1363 ميلادي .

كان في استقبال ابن خلدون وعائلته الأمير ( أبو عبد الله الحفصي ) و أهل بجاية و أعلن أمام الناس أن ابن خلدون هو رئيس الوزراء و صاحب الأمر و النهي في بجاية، و يقول ابن خلدون في هذا :


" احتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي و أركب أهل دولته للقائي ، و تهافت أهل البلد علَّي من كل أوب يمسحون أعطافي و يُقبِّلون يدي و كان يوماً مشهوداً "

و كيف لا و قد جاء ابن خلدون رئيساً للوزراء ، عكف ابن خلدون على تدبير أمور المدينة ، يجمع الخراج بدهاء و حزم و يُخمِد ما فيها من فتن و يخطب خطبة الجمعة في جامعها قصبة، و يُدرِّس العلم لطلابها و يستقبل حيناً الأمير ( أباحمو ) أمير تلمسان و صِهر أمير بجاية،  و يقول في ذلك :


" وأصبحت من الغد و قد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابي، و استقللت بحمل مُلكه و استفرغت جهدي في سياسة أموره و تدبير سلطانه ، و قدَّمني للخطابة في جامع قصبة و أنا مع ذلك عاكف ـ بعد انصرافي من تدبير المُلك غدوة ـ إلى تدريس العلم أثناء النهار بجامع قصبة ".

وهكذا حصل لابن خلدون ما أراده، فقد تحققت أحلامه كلها ، مضي يدير ابن خلدون الأمور بحسم وكفاءة، إلا أن الحظ السيئ ما زال يلاحق بابن خلدون ، فقد كان الأمير أبا العباس أمير قسنطينة و ابن عم أمير بجاية طمع في حكم بجاية، فقام بتجهيز القبائل ضد ابن عمه و هجم على بجاية هجوماً مُفاجِئاً ونجح في حربه ضد ابن عمه و لقي الأمير أبو عبد الله الحفصي مصرعه و هو يلوذ بالفرار . و لم يجد ابن خلدون مفراً إلا بتسليم جباية إلى أبو العباس لحمايتها منه فأبقاه أبا العباس في منصبه و بقي ابن خلدون خائفاً منه على نفسه و أهله، و لذلك سعى بالفرار هو و أهله ليلاً إلى مدينة بسكرة، فعَلِمَ أبا العباس بهروب ابن خلدون من جباية و كان يحيى أخوه لعبد الرحمن موجودٌ في مدينة بونة ( العناب ) بالقرب من بجاية فأمر العباس بالقبض عليه، و لكن يحيى نجح بالفرار من بونة  و اتجه إلى بسكرة ، و كان ابن خلدون قد بلغ من العمر 38 عاماً و كان ذلك عام 768 هجري / 1367 ميلادي .

في مدينة بسكرة أرسل إليه الأمير أبو حمو (سلطان تلمسان) سفيراً، يعرض عليه رئاسة الوزراء في تلمسان مقابل الاستعانة بخبرته و علاقته بالقبائل و استمالتها إلى السلطان أبو حمو على أبا العباس ، و لكن ابن خلدون اعتذر عن قبول رئاسة الوزارة و قال :


" عزمت إلى التفرغ للعلم واعتزلت المناصب وها هو أخي يحيى خذه معك و هو خير من تريده للوزارة ".

فذهب السفير ومعه يحيى إلى السلطان أبو حمو وقام السلطان أبوحمو بالهجوم على أبا العباس ولكنه فشل فانتصر عليه أبا العباس .

توفي السلطان أبو سالم سلطان فاس و تولى العرش السلطان أبو فارس فخرج بجيشه وهجم على تلمسان فوجد ابن خلدون قد وقع بين معسكرين في حرب و كان قد دبر للعودة إلى غرناطة وحيداً، لكن سرية من جند أبا فارس لحقت به و عادت معه إلى أبي فارس في معسكر على مشارف تلمسان و أراد أب فارس أن يفتك به لولا شفاعة بعضاً من رجال أبي فارس .

اجتاح أبا فارس بعد ذلك تلمسان فهرب أبا حمو و جيشه إلى الصحراء الكبرى فأمر أبي فارس ابن خلدون باللحاق بجيش أبا حمو فلم يكن من ابن خلدون إلا تنفيذ ما أمره به أبا فارس ، فذهب وراء جيش أبا حمو و قضى عليه و لكن أبا حمو قد تمكن من الهرب ، وعاد ابن خلدون إلى أبا العباس و قد نفَّذ ما طُلِب منه ، فشكره السلطان و أذِنَ له بالعودة إلى أهله في بسكرة و أخذهم و المجيء بهم تحت حماية أبا فارس .

و في الطريق إلى تلمسان جاء خبر وفاة السلطان أبا العباس فعاد ابن خلدون بأهله إلى فاس، و في الطريق انقض أشقياء من أبناء يغمور و سرقوا ما كان مع ابن خلدون وعائلته من متاع، فلم يجد ملجأ إلا عند جبل دبدو، وعندما وصل هناك صحب ابن خلدون الحراس و ساروا به إلى فاس وعوَّضهُ الأمير ابن غازي عما أصابهُ فعاش عالِماً حتى أصبح عمره 44 سنة .

فعادت الفتن مرة أخرى في فاس فيُخلَع سُلطان و يُولى سلطان و يقبض على ابن خلدون و يُطلق سراحه لغير سبب، و ما إن خرج من السجن قال :


"الآن أدرك أن قصور المغرب قد سدت في وجهي ولا مفر من رحيلي إلى غرناطة وحدي" ، فقالت له زوجته : "ونحن" فقال ابن خلدون :" أنتم ستبقون هنا حتى تستقر الأمور في غرناطة فادعوكم إليها"

وسافر ابن خلدون إلى غرناطة و استقبله سلطانها محمد الخامس بفرح إلا أن ابن خلدون لم يُطِل البقاء في الأندلُس، فقد بعث السلطان أبو حمو إلى السلطان محمد الخامس برسالة يُهدِّدُهُ فيها إن لم يُسَلم ابن خلدون له ، فلم يكن من الأمير إلا الموافقة مُكرهاً فبعث به إلى تلمسان مقر السلطان أبو حمو .
وصل ابن خلدون إلى ميناء ( هُنَيْن ) فبعث برسالة إلى أخيه يحيى الذي كان يعمل حاجباً ( وزيراً للوزراء ) عند السلطان أبو حمو يطلب شفاعته عند السلطان أبو حمو مقابل تسليم بجاية في يوم من الأيام له .

فعندما وصل ابن خلدون إلى تلمسان تظاهر السلطان أبو حمو بقبول عرض ابن خلدون فلما استقر فيها قَدِم أهله من فاس إلى تلمسان ليستقروا هناك ، ولكن لم يطل استقرارهم فيها فلقد دعا السلطان أبو حمو ابن خلدون إلى قصره وقال له : " عفوت عنك وأريدك الآن أن تبرهن على ولائك لي بدعوة القبائل إلى نصرتي "، فتظاهر ابن خلدون بالقبول و اتجه إلى قبائل بني هلال و لجأ إلى حمايتهم فقد كان له أصدقاء من قبائل ( بني عريف ) وقبائل ( رياح ) وهم أعز قبائل بني هلال فبعثوا برسالة إلى السلطان أبي حمو يطلبون فيها عفوه عن ابن خلدون و الإذن لأسرته باللحاق به و وعدوه بنصرته إن استجاب لرجائهم، و بهذا نجح ابن خلدون بدعوة قبائل بني هلال إلى نصرة السلطان أبو حمو بذكاء و دهاء ، فلم يكن من السلطان أبو حمو إلا العفو عن ابن خلدون وبعث أسرته إلى قبائل بني هلال .

وفي قلعة بني سلامة عاش ابن خلدون و عائلته حياة أمن و استقرار و سعادة و هدوء بعيداً عن الحروب و السلاطين، و في هذه المدة التي قضاها في القلعة بدأ بتأليف كتابه الضخم الأول الذي أسماه (( المقدمة في فَضْلِ التاريخ )) وكان قد كتب 690 صفحة خلال 5 أشهر، حيث وضع في هذا الكتاب خبرة ربع قرن قضاها في السياسة و خدمة السلاطين و قُدِّرَ لهذا الكتاب فيما بعد أن يكون واحداً من أشهر كتب العالم و أن يحمل بعد قرون اسم ((مُقدِّمة ابن خلدون))، و في السنوات الأربع التالية أنجز ابن خلدون كتابه الموسوعي (( العِبَر وديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر )) و من أجل هذا الكتاب استحق ابن خلدون لقب مؤسِّس علم الاجتماع ، و قد كتب ذلك الكتاب بدون أي مراجع و كتب تاريخ و لكنه عندما قارب على نهاية الكتاب أحس بحاجته إلى المراجع فعزم أمره ليسافر إلى تونس، بلده الذي وُلِدَ فيه حيث يوجد في مكتبتها كل ما كان يريده من معلومات، و كان ابن خلدون قد بلغ من العمر 49 عاماً في ذلك الوقت .

كان سلطان تونس في ذلك الوقت هو أبو العباس فقام ابن خلدون بكتابة رسالة إليه يطلب منه العفو و ذكر فيها اعتزاله للمناصب السياسية و تفرُّغه للعلم و طلب منه العودة إلى تونس و بعث بالرسالة مع رسول يوصل الرسالة إلى أبو العباس ، عاد الرسول بعد أسابيع و بيدِهِ رسالة تحمل عفو السلطان و تأذن له بالعودة إلى تونس، فسارع ابن خلدون بمُغادرة قلعة بني سلامة مُتَّجِهاً إلى تونس و كان ذلك عام 778 هجري / 1377 ميلادي .

وصل ابن خلدون إلى تونس و إستقبله السلطان أبو العباس و رحَّب به و كان السلطان قد جهَّز لابن خلدون منزلاً كبيراً يعيش فيه هو وعائلته ، فبعث بمن يأتي بأسرته من ديار بني هلال .

كان ابن خلدون قد بلغ من العمر 52 عاماً عندما أتم كتابه التاريخي (( العبر وديوان المبتدأ والخبر....)) فقدَّم نسخة منه إلى السلطان أبو العباس و ظن ابن خلدون أنه أُعفي من المناصب السياسية إلا أن السلطان أراد الاستعانة به في حملة حربية، فعزم ابن خلدون الهرب من المغرب الكبير بأسرِه، فخرج إلى القاهرة . و دخل ابن خلدون إلى القاهرة عام 784 هجري/ 1383 ميلادي، فلمَّا عرف العلماء وطلاب العلم بوجود ابن خلدون في القاهرة تسابقوا للترحيب به، فقد بلغهم تاريخه وعلمه بالفقه و الحديث و اللغة و الأدب و فنون الكتابة و تحلَّق حوله طلبة العلم في ساحة جامع الأزهر فأُعجب به الأمير الطنبغا الجوباني فعرفه على السلطان الظاهر برقوق و مدحه عنده ، فقام السلطان بتعيينه في وظائف التدريس والقضاة و صار له منزلان كبيران في القاهرة، و كان سعيداً جداً بوجوده في القاهرة، و مضى على وجوده فيها عامين .

طلب ابن خلدون من السلطان السماح لأهله بالقدوم إلى القاهرة فقام السلطان ببعث رسالة إلى السلطان أبو العباس يطلب منه فيها أن يبعث بأهل ابن خلدون إلى القاهرة فقام السلطان أبو العباس ببعثهم إليه عن طريق البحر ، و في الطريق انقلبت السفينة و غرق أهل ابن خلدون فأصابه الحزن الشديد على موت أهله . و لم تنته المصائب فلقد عزل السلطان ابن خلدون من مناصبه جميعها بسبب الوشايات ، فخرج إلى الحج وكان ذلك عام 787 هجري / 1386 ميلادي و كان عمره 58 عاماً و عندما عاد إلى القاهرة إقتصر عمله فقط على إلقاء الدروس على التلامذة .

بقى ابن خلدون في القاهرة حتى عامه 70 فقام بالسفر إلى فلسطين للصلاة في المسجد الأقصى و زار بيت لحم و الخليل و غزة و عاد ليكتب ما شاهده بوصف دقيق في كتابه (( التعريف بابن خلدون ورحلاته شرقاً وغرباً )) و الذي جعله خاتماً لكتابه (( العبر وديوان المبتدأ والخبر )) و عاد لتدريس الفقه والحديث .

جاءت الأخبار إلى مصر بانقضاض (تيمور لنك) بجيوشه على الشام فسارع السلطان الناصر إلى الخروج بجيوشه لصد غارات تيمور لنك و أخذ معه علماء مصر و من بينهم ابن خلدون . 
اشتبك جيش مصر مع جيش التتار في معارك صغيرة ثبت فيها المصريون فتوقف تقدم تيمور لنك و بدأت المفاوضات لانسحاب تيمور لنك من الشام ، غير أن السلطان الناصر عاد إلى مصر لأسباب تتعلق بالحكم و ترك الحرب بين يدي القادة العسكريين ، و بعد تشاور أدرك القادة العسكريين أن تيمور لنك سوف يؤدي إلى تدمير الشام واستقر رأيهم على المفاوضة ، فدعا تيمور لنك ابن خلدون على مفاوضته فصحبه نائب تيمور لنك ( شاه ملك ) إليه فلما وصلوا لمعسكر ابن خلدون بدأت المفاوضات واستمرت 40 يوماً و فجأة وصلت المفاوضات إلى نهايتها عندما اقبل بعض فرسان تيمور لنك فرحين مهللين بسقوط دمشق بين أيديهم فينكس ابن خلدون رأسه حزناً على إخفاقه بمهمته ويمضي عائداً إلى مصر ، و في فجر اليوم السادس و العشرين من شهر رمضان خرجت روح ابن خلدون الطاهرة إلى بارئها في 28 رمضان عام 808 هجري الموافق 19 مارس من عام 1406 ميلادي و سارت القاهرة في وداعه  العامة والعلماء والقضاة والأمراء ودفن جثمانه بمقابر الصوفية خارج باب النصر في اتجاه حي الريدانية ( العباسية ) .

رحمه الله، فلقد خسرنا عالم لا يمكن الاستغناء عنه .
 
ألقابه :

لم يُلقَّب ابن خلدون بألقاب كثيرة، فلقد لُقِّبَ بلقب مؤسس علم الاجتماع و لُقِّبَ أيضاً بأبو علم الاجتماع و لُقِّبَ بـابن خلدون و لُقِّبَ بأبو فلسفة التاريخ نِسبةً إلى عائلته و كُنيَ بأبو زيد و لُقِّبَ بولي الدين .

مؤلفاته :


لم يكتب ابن خلدون من المؤلفات الكثير، و لكنه كتب أعظم الكتب و هو : (( العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر )) . 

رحَمِهُ الله ...