أحد قادة الجيوش البارزين في عسير خلال القرن الثالث عشر هجري
on- 2016-03-25 19:17:51
- 0
- 4464
عاشت الجزيرة العربية في العقد الثالث من القرن الثالث عشر الهجري ظروف بالغة الأهمية، حيث شكلت الغزوات التي أرسلها محمد علي باشا تجاه معظم مدن وأقاليم الجزيرة العربية، مرحلة فارقه في تاريخ الجزيرة العربية، حيث استُقبلت الجيوش الغازية بدفاعات ومقاومات تباينت نتائجها بين الحين والآخر، لاسيما في ظل الدعم المستمر من قبل محمد علي لجيوشه في المنطقة، التي لا شك أنها تراجعت من حيث أتت، لاسيما بعد أن توارث أبناء هذه البلاد زمام المقاومة التي تحولت في أحيان كثيرة إلى هجوم مباشر على القوات الغازية، والتي تلقت خسائر متتالية بعد حروب ومعارك استمرت أكثر من عقدين من الزمان، كانت منطقة عسير إحدى أهم المناطق التي قصدتها القوات الغازية نظير جهودها البارزة في نشر الدعوة السلفية، وقد استطاع أهالي المنطقة من خلال قياداتهم المتعاقبة الوقوف في وجه القوات التركية، التي حققت في بادئ أمرها انتصارات صعبة وبطيئة، نظير المقاومة التي تصدت لها إبان حروبها في المناطق الشمالية لمنطقة عسير حيث لمع اسم طامي بن شعيب وعثمان المضايفي العدواني، وبخروش بن علاس القرشي الزهراني، وغالية البقمية، إلا أن مجريات الأحداث بدأت تتحول بعد مرور أكثر من عقد على الحروب والمعارك الضارية بين الطرفين حيث بدت المقاومة أكثر تركيزاً ومعرفةً بأحوال الجيوش الغازية، التي كانت تتسلح بأفضل أنواع المدافع والبنادق الحديثة، وفي هذه الحقبة يُظهر العسيريون عبر قياداتهم المتعاقبة ملاحم من البطولات التي كبدت جيوش الباشا خسائر متعددة ليظهر حينها اسم علي بن مجثل كأحد هؤلاء الأمراء البارزين في مقاومة الجيش الغازي.
نسبه
عُرف علي بن مجثل اليزيدي " بابن ترابة " وذلك جرياً على عادة العرب في تسميتهم أو تكنيهم بأسماء أمهاتهم من باب التوقير والمفاخرة ولا شك أن هذا سلم عربي قديم، عرفه العرب منذ قديم الزمن، حيث تعود كثير من أسماء القبائل العربية لأسماء أمهات الرجال، وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين زعم أن " ترابة " رحمها الله هي والدة علي بن مجثل إلا الدراسات التاريخية تشير إلى أنها جدته وجدّة سلفه سعيد بن مسلط الأخ غير الشقيق لعلي بن مجثل فترابة – رحمها الله – هي ترابة بنت لاقي اليزيدي الذي تنتمي إلى آل عبدالرحمن من آل يزيد، كما يوضح ذلك المؤرخ علي بن عوض آل قطب في حين أن والدة سعيد بن مسلط وسلفه علي بن مجثل هي عائشة بنت محمد التي يقال إنها أخت مرعي بن محمد اليزيدي الذي كان أميراً لعسير قبل إمارة آل متحمي مع العلم أن مرعي هو والد عايض بن مرعي الذي تولى إمارة عسير بعد علي بن مجثل وعايض هو جد أسرة آل عايض التي حكمت عسير من عام 1249ه إلى 1342ه ، وإن صح ذلك فيكون عايض بن مرعي هو ابن خال سلفيه سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل، ولا شك أنهم جميعاً "آل مسلط" وآل مجثل" و"آل عايض" سليل نسب واحد من آل يزيد من بني مغيد إحدى كبريات قبائل عسير التي يطلق عليها " مغيد الخطا " حيث سعيهم الدائم لتصحيح أخطاء المارقين والخارجين عن جادة الطريق والسلوك السليم، كما يطلق عليهم أيضاً لقب " جمهور " كناية عن كثرة أعدادهم وأحلافهم، كما يذكر ذلك عبدالرحمن بن عبدالله آل حامد في " العادات والتقاليد والأعراف في إقليم عسير ".
إمارة آل متحمي
لقراءة سير في تاريخ علي بن مجثل لا بد للقارئ أن يسترجع وبإطلالة سريعة تاريخ منطقة عسير التي كان يحكمها آل يزيد وبانضمام الإقليم إلى الدولة السعودية الأولى بدأت إمارة أسرة آل متحمي التي تنتمي إلى عشيرة بني الحسن إحدى العشائر القبلية لربيعة ورفيدة التي تعد فرعاً كبيراً في عسير كما يذكر آل قطب ويجمعهم النسب في آل يزيد حيث أن مرعي بن محمد اليزيدي – كما يذكر زين العابدين الحفظي في ترجمته لعايض بن مرعي في مجلة العرب المجلد التاسع ( رجب 1394ه إلى جماد الآخر 1395ه ) - قد تزوج منهم قبل نشوء إمارة آل متحمي التي بدأت بمحمد بن عامر أبو نقطة الذي توفي بالجدري بعد عودته من الدرعية واجتماعه مع الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود ليخلفه أخوه المظفر عبدالوهاب أبو نقطة الذي قتل في معاركة مع الشريف حمود أبو مسمار فيخلفه الشهير طامي بن شعيب الذي قتل في اسطنبول ومن بعده ابن أخيه محمد بن أحمد المتحمي الذي قبض عليه وسلم لقوات محمد علي هو وابنه مداوي المكنى " أبي دواس " .
ولكل واحد من هؤلاء القادة تاريخ حافل بالسيادة والإمارة وقيادة الجيوش لاسيما وأن طامي ومحمد بن أحمد وقفا جميعاً وبمعيتهما سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل لصد حملات محمد علي باشا على إقليم عسير، في إيثار من الجميع لمصلحة العباد والبلاد حيث عرف عن "العسيريين" زهدهم في المناصب الدنيوية في مقابل حرصهم على وحدة صفهم وتآخيهم، وهذا ظاهر في تاريخهم في أيام السلم والحرب وعلى مختلف أطيافهم وأعراقهم، حتى لقد شكل طامي بن شعيب -مع بداية غزو جيوش محمد علي باشا للمنطقة- ومحمد بن أحمد وسعيد بن مسلط وعلي بن مجثل جبهة واحدة استطاعت بعد حروب طويلة ومعارك عديدة أن تصد القوات الغازية واستمرت مقاومة كل من هؤلاء لقوات الباشا بل لقد سعت في كثير من الأحيان لاستلام زمام المبادرة بالغزو وانتهاز فرصة الزمان والمكان والظروف الموائمة، ليستقر الحكم فيما بعد لسعيد بن مسلط وعلي بن مجثل اللذين قاوما نفوذ محمد علي باشا وبعد حروب وضروب وكر وفر استقرت لهما الأوضاع بعد أن هزموا جيش محمد علي باشا الذي قدم لعسير بقيادة أحمد باشا يكن عام 1240ه.
بداياته
لم تحدد المراجع التاريخية مكان أو تاريخ ولادة علي بن مجثل بيد أنها أجمعت على أنه ولد في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وعلى الرغم من أدواره المهمة ومكانته إلا أن المصادر والمراجع والوثائق التاريخية لم تذكر علي إلا بعد أن لاح اسمه كأحد القادة البارزين الذين تبنّوا نشر الدعوة السلفية والذود عنها، إبان عهد الدولة السعودية الأولى وذلك من خلال مشاركاته الفاعلة في مطاردة جيوش محمد علي باشا أثناء إمارة محمد بن أحمد المتحمي حيث شارك الأخير في طرد حامية الباشا في مدينة " طبب " عام 1230ه والتصدي لحملة حسين باشا علي عسير عام 1232ه كما ذكر محمود شاكر في " شبه جزيرة العرب " حتى أن معاصره الرحالة الفرنسي " موريس تاميزيه " وصفه في " رحلة في بلاد العرب " بأنه كان " حكيماً ذكياً ".
تقريب علماء
تكاد المراجع التاريخية تجمع على المواهب والقدرات المتعددة التي اتصف بها علي بن مجثل فهو قيادي من الطراز النادر كما أنه رجل مفوّه خطيب متحدّث ، وسياسي بارع ثابت في حروبه حازم في إدارته، وهو على جانب كبير من التدين والتقوى والورع، كما ذكر ابن بشر في تاريخه، لا واجمع عليه من كتب عنه وقرأ سيرته، ولذا فلا غرابة في سعيه الدؤوب لاستشارة العلماء وتقريبهم وإنزالهم منزلتهم من العلم، بل تجمع المراجع على خصال التدين التي كانت ظاهرة في شخصية علي بن مجثل ويستشهد المؤرخون على ذلك بخطاباته وتوجيهاته بل وسيرته وأعماله وختمه الذي كان يحوي عبارة ( يا من عليه أتوكل اهد عبدك علي بن مجثل ) وذكر هاشم بن سعيد النعمي في ( تاريخ عسير في الماضي والحاضر ) أنه ما أن استلم علي بن مجثل مقاليد الإمارة " حتى أخذ في تقدير العلماء الاستفادة منهم في مهام الحكم ، وفصل الخصومات ، فازداد بذلك عزاً وقوة " ويذكر المؤرخ علي آل قطب أن اقتراب العلماء من علي بن مجثل شكل النواة الأولى في تكوين مجلس الشورى الذي ظهر لاحقاً في صورة بارزة في عهد عائض بن مرعي ولعل الأعمال التي قام بها ابن مجثل من هدم للأضرحة والقباب التي على القبور تدلل بشكل واضح تمسكه بالدعوة السلفية كما هو سلفه سعيد بن مسلط وكذلك كان أمراء آل عائض، على الرغم أنهم كانوا مستقلين في إقليم عسير، كما يشير إلى ذلك عبدالله بن علي بن مسفر في " أخبار عسير " حين يصف عائض بن مرعي وسلفيه سعيد بن مسلط وعلي بن مجثل، بل لعل الاطلاع على رسائل علي بن مجثل للعلماء والقضاة وأمراء المدن والهجر تثبت ذلك كما أن مراسلات الأمراء من آل يزيد لا سيما آل عائض مع أئمة الدولة السعودية تبقى إحدى المراجع التي استشهد بها بعض المؤرخون في هذه المجال، بل يذكر بعضهم أنه أرسل إلى أهالي أرتيريا يحثهم على دخول الإسلام، كما أن عهد ابن مجثل شهد تقدماً في المجال العسكري على قوات الباشا شهد أيضاً تقدماً عليماً وثقافياً لا سيما في بناء الأوقاف والمدارس ورواج الحركة العلمية التي بدأت مع بداية إمارة آل متحمي مروراً بسعيد بن مسلط وأخيه علي بن مجثل ثم بأمراء آل عائض ، ولا أدل على ذلك إلا تلك المناظرة الشهيرة التي دارت بين عسير فقهاء عسير والسيد أحمد بن إدريس المغربي إبان فترة إمارة الأمير علي بن مجثل .
قلعة المفتاحة
كما أن ابن مجثل اشتهر ببناء القلاع والحصون التي وزعها على عدد من المدن والقرى، والتي ما يزال بعضها قائماً إلى يومنا هذا، ولعل من أشهرها قلعة المفتاحة التي يذكر هاشم النعمي -في تاريخ عسير- إلى أنها " أول قلعة حكومية بأبها " معتبراً أن هذه القلعة كانت نقطة التحول في نقل عاصمة عسير من بلدة السقا إلى مدينة أبها، ولذا فقد كانت "طبب" عاصمة آل متحمي كما كانت "السقا" عاصمة سعيد بن مسلط وفي عهد ابن مجثل تم بناء المفتاحة التي لا شك أنها ظلت مقراً حكومياً وحصناً منيعاً ذا أهمية في تاريخ أبها وعسير على وجه العموم، وقد رجح الدكتور محمد آل زلفة أن تسميتها إنما جاءت تيمناً بالفتوحات التي شهدتها البلاد أثناء فترة حكم علي لا سيما وقد اطلق عليها أيضاً " قصر النصر "وفق ماقالة ابن زلفه في حين يرى البعض أن قلعة النصر تلك التي أقيمت في أبو عريش.
وقبل وفاته أوصى بالإمارة إلى عايض بن مرعي أحد أشهر قادته في إشارة واضحة على ما يتمتع به هذه علي من إيثار لتحقيق سبل الأمن والاستقرار، لاسيما وأنه كان يدرك الصفات القيادية لعائض بن مرعي، وبوفاء تكرر كثيراً بين بني عمومته من آل يزيد وكذلك آل متحمي، فقد منحت الولاية للأكفأ بعيداً التوارث، حيث يذكر علي أحمد عيسى عسيري في ( عسير من 1249ه /1833م – 1289ه / 1872 م ) أن تداول السلطة بين آل يزيد يؤول ( إلى الأرشد من القرابة ) .
معركة الحسم
كان محمد آغا المعروف ب " تركي بن ألماز " أحد قادة الجنود الألبان لمحمد علي باشا وقد انقلب هذا القائد على محمد علي وتقاطعت مصالحه مع مصالح علي بن مجثل الذي كان يحاصر قوات محمد علي في أبو عريش، الأمر الذي مكّن للطرفين أن يتفقا على مواجهة جيوش محمد علي باشا، وفعلاً تم لهما ذلك بيد أن العلاقة توترت بين علي بن مجثل والقائد تركي بن ألماز لكون الأخير استغل نفوذه حين توسع في بلاد المخلاف واليمن، فأساء استخدام السلطة وأظهر الفساد، هذا بالإضافة إلى تراكمات سابقة كانت قد أدت إلى فتور العلاقة بينه وبين علي بن مجثل، وحينها لم يكن علي راضيا عن هذا الجندي المنشق، لولا أنها تصب في صالح البلاد حيث استغل انشقاق تركي بن ألماز على خصمه محمد علي باشا بيد أنه لم يكن أبداً ليغفر له فساده وإساءته استخدام نفوذه، فحين رفع له الأهالي في المخلاف واليمن بشاعة تصرفات جيش تركي بن ألماز فقد تأهب لمعاقبته في حروب طويلة، استطاع علي في آخر الأمر أن يبدد جيوش " ألماز " ويطردها من البلاد ويحكم قبضته على أجزاء من بلاد اليمن وكامل المخلاف وعسير إلى جنوب الطائف.
وفاته
بعد معاركه مع " تركي بن ألماز" عاد ابن مجثل إلى عسير مريضاً في آخر شهر شعبان عام 1249ه وهو في طريقه إلى عسير نزل بمدينة أبوعريش وقد اشتد عليه المرض، إلا أنه أصر على السير إلى مقر حكمه في بلدة السقا، حيث يصف المؤرخون وصوله إليها بقولهم " فوصلها محمولاً على أكتاف الرجال " وكان وصوله منتصف شهر رمضان المبارك، وقد اشتد به المرض إلى أن توفي في الثاني عشر من شهر شوال، بعد حكم دام سبع سنوات، وقبلها كان قائداً لعدد من الجيوش سواء في العهد السعودي أو في عهد أخيه سعيد بن مسلط، وبذلك تطوى صفحة من صفحات إقليم عسير الذي مازالت بعض حصونه وقلاعه تحمل اسم ابن مجثل اليزيدي رحمه الله رحمة واسعة.