هورخرونيه.. الهولندي المكي الجاوي
on- 2016-01-29 13:57:05
- 0
- 1329
كريستيان سنوك هورخرونيه، مستشرق هولندي، ولد عام ١٨٥٧م، ودرس اللاهوت بجامعة ليدن، ثم انتظم في سلك الاستشراق، فدرس العربية حتى حذقها، وكان بحثه للدكتوراه عن «الحج عند المسلمين»، ودرّس واشتغل في تلك الجامعة أستاذا للدراسات الإسلامية، قبل أن يسافر إلى الحجاز، وهناك تعرف إلى الوجهاء والأعيان، وأمضى خمسة أشهر يتعلم اللهجة الدارجة في جدة ليضمها إلى معرفته البارعة بالعربية الفصحى.
وكان طموح كريستيان أن يدخل مكة، حتى يخترق قلعة الإسلام الغامضة في عيون الأوربيين، ويدرس المجتمع المكي من الداخل، ولكن لا سبيل له إلى دخول مكة لأنه غير مسلم.
فما كان منه إلاّ أن حلّ الأمر بطريقته الخاصة؛ فقد قابل قاضي جدة، الشيخ إسماعيل اغا، وأخبره برغبته الدخول في الإسلام، وكان اليوم الموالي يوماً مشهوداً، زار فيه القاضي الجليل ذلك الهولندي في مسكنه، وسجّل إشهار إسلامه، وشهد على ذلك شهود عدول، وتسمى كريستيان يومها «عبدالغفار»، ذلك الاسم الذي سيظل يلازمه ثمانية عشر عاماً في مهمته الاستعمارية التي نذر عمره لها!.. وهنا صار الطريق إلى مكة المكرمة سالكاً، وبات بوسع الهولندي أن يصير مكياً، ينظر في البيت ويحدق في أنحائه من داخله، بعين متفحصة!
دخل «عبدالغفار» أو كريستيان مكة، واتخذ له فيها مسكناً، وأقام هناك، يتجول، ويحادث الناس، ولم يدع مركازاً ولا «كرويتة» ولا قهوة، ولا مجلساً من مجالس الأعيان إلاّ كان له منها نصيب، يستمع، ويناقش، ويعود ليدوّن تفاصيل التفاصيل من شأن مكة وحياة أهلها، الولاة الأتراك ونفوذهم، وعلاقتهم المعقدة بالأشراف، الدعوة السلفية وأثرها في مكة، النسيج المجتمعي المتناغم متعدد الأعراق، التجار، والدراويش، الحضارم واليمنيون، الأتراك والهنود، الجاوى، البدو، والتكارنة، الرقيق الشراكسة والأفارقة، الأغوات، آل الشيبي، المطوفون، إلى غير أولئك.
يصف هورخرونيه حياته في مكة فيقول: «لقد أقمتُ علاقات ومعارف مع علية القوم من أفراد المجتمع المكي، ولقد سمعت بأذني ما يتعلمه سكان المدينة العالمية وما يعلمونه لطلابهم، وكيف يتحدثون في أمور السياسة وأمور الفكر والثقافة، لقد درست النظم المثالية والحياة الواقعية، كما درست أصول العقيدة الإسلامية والصراع من أجل البقاء، درست ذلك كله وخبرته وتعلمته في المسجد والديوان، والمقهى، ومن واقع الحياة اليومية».
وما كان المجتمع المكي ليتقبّل مثل هذا ال»كريستيان» بسهولة، لولا أنه «عبدالغفار»، المسلم العالم اللبيب، ذو الصلة القوية بالأعيان في جدة، والذي كانت المراسلات بينه وبين بعض نبلاء الحجاز تدل على ود وإكبار يكنه هذا البعض له.. وفي بضعة شهور وحسب، كان «عبدالغفار» يدون ملاحظاته عن مكة بكل تفاصيلها، معمار بيوتها ومواده الخام من حجر الشميسي، و»الطبطاب» الذي تبلط به الأرضيات، والحصير الذي يوضع فوق العوارض الخشبية ويغطى بالرمل لتتكون به أسقف المنازل، و»الخارجة» التي ينام فيها أهل الدار في ليالي الصيف، كما ينشرون فيها الغسيل، ويصف الدهليز، والحمام بمرحاضه وأرضيته المائلة، والمجلس وأثاثه، وطريقة تأجير البيوت للسكان وللحجاج..
كما استطاع «عبدالغفار» أن يرصد عادات المكيين في ترتيب الزواج، وتقاليدهم في الخطبة، والنكاح، والطلاق، والخلع، وما يعتقدونه عن العين، والسحر، والجن، والعفاريت، واحتفائهم بالمواليد وتسميتهم لهم، وختانهم للأطفال، وإلحاقهم لهم بالكتّاب.
والقارئ لكتاب «هورخرونيه» عن مكة يشهد «مكة» كما كانت قبل مئة وثلاثين عاماً، يتجول بخياله في أزقتها وشعابها، ويرى أهلها بعاداتهم، وأعرافهم، وقيمهم، وطعامهم، وألعابهم، وأزيائهم، وصناعاتهم، ومهنهم، على نحو يُشكر، لو كان الغرض من ذلك التوثيق علمياً محضاً، ليس للأطماع الاستعمارية والحيل الاستخباراتية فيه حظ.
وفجأةً، وعلى حين غرة، طرد «عبدالغفار» من مكة بأمر الدولة؛ فغادر ليكمل مهمته الاستعمارية في بلاد جاوة! وباسم «عبدالغفار» الشيخ الشافعي الذي تلقى العلم في المسجد الحرام! وعاش وسط المجتمع الجاوي المسلم بوجهٍ إسلامي، حتى إنه تزوج فتاة مسلمة، وأنجب منها ذرية، وعاش معها بضعة عشر عاماً لم تشكّ أثناءها لحظة في إسلامه! ولولا مهماته التي كشفت عنها الوثائق لكنا أولى باليقين في صدق إسلامه من زوجته المسلمة، فقد كان مستشاراً في الشؤون الإسلامية والعربية لصالح وزارة المستعمرات الهولندية، وكان يكتب التوصيات والخطط لقمع الحركات المقاومة للاستعمار الهولندي.. ولك أن تعجب من هذا الرجل كما تشاء.